شباب الختمية

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
شباب الختمية

منتدى شباب الختم يتناول قضايا الشباب وفعالياتهم


    كتاب يقرب التصوف

    Admin
    Admin
    Admin


    المساهمات : 1949
    تاريخ التسجيل : 10/01/2008

    كتاب يقرب التصوف Empty كتاب يقرب التصوف

    مُساهمة  Admin الأربعاء مايو 16, 2012 1:56 am

    مقدمـــــــــة


    بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين و الصلاة و السلام على سيدنا محمد أشرف المرسلين ، و على آله و صحبه ، و كل عباد الله الصالحين .


    و بعد، إن ما يتميز به عصرنا عن سالفه من العصور ، احتكاك الأمم المختلفة و الشعوب المتباينة فيما بينها ، احتكاكا لم يسبق له مثيل ، بسبب وسائل التواصل و الإعلام التي قلصت المسافات و سهلت الاطلاع على المعلومات الكثيرة في أقل الأوقات ؛ مما جعل كل أمة ملزمة أن تبني لنفسها صرحا من المقومات على أساس متين ، في جميع المجالات و الميادين ، إن كانت لا تريد أن تداس بالأقدام و يفوتها الركب المسرع في خطاه مع كل دقائق الزمان .

    و أمتنا الإسلامية ، و هي إحدى هذه الأمم ، أولى من غيرها أن تقوم بذلك ، لأن لها سندا إلهيا لا يبارى و هديا نبويا لا يجارى ، من دون أخواتها في الإنسانية : لها الوحي الذي بين لها ما تفعل و كيف تفعل ، من أين تبدأ و إلى أين تنتهي ، فما عليها حياله إلا أن تنهل من معينه العذب ، و لها فيه غنية عن سواه من بنات أفكار البشر إن هي تفطنت .

    غير أن أمتنا على العموم ، أصيبت بالوهن ، مؤقتا ، ذلك الوهن الذي ترجع أسبابه من جهة ، إلى عدم التزامها بدينها التزاما يفتح لها أبواب كنوزها ، و من جهة أخرى إلى التشكيك الذي تتعرض له في هذا الدين عينه ، إما من قبل أعدائها الأجانب عنها ، أو ممن تأثروا بهؤلاء من أبنائها .

    و مما يلاحظ من خلال ما يروجه هؤلاء و أولئك من أغاليط و أباطيل ، أنهم يتخذون العقل و العقلانية وسيلة لإقناع الأمة ، سالكين في ذلك سبلا من الفكر قد تشتبه على من لا يحسن النظر فيها .

    فصار البعض يدعو إلى تجاوز للدين ، ذلك أنه عنده من نتاج البشر في حقبة معينة من الزمان لظروف معينة ، كان العقل البشري لا يزال فيها في مرحلة الطفولة التاريخية ، و بما أنه الآن في زعمهم قد قطع أشواطا كبيرة ، صار لزاما عليه ، تماشيا مع مبلغ رشده ، أن يلقي بالدين في ذاكرة التاريخ متمسكا بالعقل الذي يمكّنه من استكشاف غياهب المستقبل الذي لا تلوح له نهاية في أفقهم .

    و لنفصح عنها بصراحة : صاروا يستحيون من التدين و إظهار ذلك أمام هذا العقل الوقح الذي لا يرحم من لا يحسن الدفاع عن نفسه .

    فنتج عند البعض تدين خجول ، يقر للعقل بسيادته المطلقة أو شبه المطلقة ، و يستسمحه في أن يمن عليه بأويقات يمارس فيها شعائر صارت عنده غالبا تراثا محترما مدرجا ضمن المقدسات التي يجب الحفاظ عليها ، تلك المقدسات التي صارت دائرتها تتسع يوما عن يوم ، حتى صار منها ما هو أممي أو قومي أو وطني : من هذه المقدسات ما هو فرائض ، سميت باصطلاحهم حقوقا ، كحقوق الجماعات و حقوق الإنسان الفرد (إنسانهم) بأركانها المتعلقة بالمرأة و الطفل و غيرهما (ما لم يكونا مسلمين) ، و منها نوافل كالأيام المنظمة للاحتفال و الاحتفاء بهذه البدعة أو تلك ، و ذلك كيوم الأم و يوم المسرح و غيرهما من الأيام ؛ و مستحبات كالمؤتمرات العالمية أو القارية التي تسن السنن و تبين بيان تفصيل ما سبق أن شرعت .

    إنه شرع " العولمة " الذي نزل به العقل المتقدم حسب قولهم …هذه العولمة التي لن تكون اقتصادية فقط ، على ما يبدو !

    فمن آمن فهو عاقل ، و من كفر فهو متخلف جاهل .

    و بما أن هذا العقل عندهم عليم خبير ، بدأ ينظر في الدين (التراث ) نظرة مراجع و مصحح ، حتى يجد له حلة جديدة مفصلة على القياس العصري حسب أحدث صيحات الموضة الفكرية .

    من ذلك : أن إلزام العقل بالدين ظلم له و تقييد ، و أن العفة آثار لعقد نفسية علينا التخلص منها ، و ان ستر المرأة جسدها ظلم لها و استنقاص من إنسانيتها ، و الرجوع إلى حكم الله في الأشياء ظلمانية يجب التحرر منها . و ليتهم أفصحوا و قالوا : يا أيها الناس اكفروا بما كنتم عليه ، و آمنوا بما جئناكم به ، ربما لتنبه البعض منا إلى خطورة الوضع ، و لكنهم حاوروا و داوروا . و ما هذه إلا البداية !… …كل هذا باسم "السيد العقل" ، و المسلمون غافلون عن أسباب قوتهم ، يحاولون مجابهة الأعاصير بحولهم و قوتهم . و الخصم المتعقلن يفاخرهم بمنجزاته التكنولوجية و أسلحته النووية و اكتشافاته الجينية ، و كأنها معجزات شرعه .

    والمسلم حائر ، أيجابه كل ذلك بالدين ؟! بالوحي !

    أحَياءً من " السيد العقل" أم خوفا ؟… هذا التخاذل !

    ووالله لو رضي المرء بالحمق مع تمسك بالدين عن إيمان و يقين ، لكان أعز له و أكرم ! و لو وثق بربه و تمسك بحبله ، لكان له أنجى و أسلم

    و توضيحا للأمر و اجتلاء له ، ارتأينا تأليف هذا الكتاب ، راجين من الله أن يسددنا فيه على الحق ، و أن يؤيدنا فيه بعونه و قوته ، راغبين

    في رفع اللبس الذي يحيط بالعقل ، جاعلين الكلام فيه على ثلاثة أبواب :

    أولها : العقل المجرد .

    ثانيها : العقل المعضد .

    ثالثها : مثبطات العقل لدى الأمة .

    سائلين الله تعالى القبول ، و النفع للكاتب و القرئ ، إنه أهل الفضل و الكرم .

    و الله المستعان .

    جرادة ، في ليلة الخميس الفاتح من المحرم لسنة إحدى و عشرين

    و أربعمائة و ألف للهجرة الشريفة ـ 2000م.

    تـمـهـــــــيد


    في أثناء تناولنا للعقل بجميع مراتبه ، سيلاحظ القارئ أننا لا نحذو في ذلك حذو من تعرض لهذا الموضوع بالاستناد إلى ما تعارف عليه معاصرونا ، برجوعهم غالبا إلى علماء الغرب الذين لا ينطلقون من نفس منطلقنا ، متأثرين في ذلك ببيئة غير بيئتنا و ملة غير ملتنا .

    من ذلك : العقل عند غيرنا لا يتصل بالدين ، بل و لا يجب أن يتصل به ، خلافا لما هو الأمر عليه في الحقيقة .

    و من ذلك : النفس : فهي عند علماء النفس ، تعني مجال دراسة البواعث و مختلف السلوكات المترتبة عنها ، و الآثار الناجمة عنها ، بينما هي عندنا تعني العقل كعقل ، لكن باعتبار خاص سنبينه من خلال هذا الكتاب إن شاء الله تعالى .

    ثم إننا في خلال هذا العرض ، سنتجاوز بعض المصطلحات الوضعية التي نراها بعيدة في دلالتها عن المعنى الذي نرمي إليه ، مستعيضين في ذلك بما يؤدي المعنى من الكلمات .

    و بما أننا نتوخى معرفة الحقائق المرتبطة بالعقل ، فإننا لن نُغرق في التعابير المتشعبة ما استطعنا ، محاولين مباشرة المعاني بلغة هي أقرب ما تكون إلى البساطة و الوضوح ، و نعني بهما : النفوذ .

    لذلك نرجو من القارئ ، أن لا يقيس كل ما نكتبه على ما سبق أن اطلع عليه عند غيرنا ، إلا إذا توصل إلى إدراك المعاني التي نقصدها على الوجه الذي نريده . كما نشير إلى أن استعراضنا لمراتب العقل ، سيكون وسطا بين الاختصار و التطويل ، إذ لو أردنا استقصاء أغلب التفاصيل المندرجة ضمن دائرة العقل ، لاحتاج ذلك إلى أجزاء عديدة ، و نحن نريد فقط ، من خلال هذا العمل ، أن ننبه القارئ إلى الموضوع ، و أن نثير فيه الرغبة في استكشاف آفاق العقل بنفسه ، لأنه لا يفيد في هذا الاستكشاف غير ذلك .

    و الله الموفق

    البـاب الأول: العـقـل المـجـرد

    الفصل الأول : تعريف العقل :

    1 . العـقل لـغـة و اصـطـلاحا:

    ا ـ العقل لغة :

    يرجع معنى " عقل " في الغالب إلى : فهم ، أمسك ، حبس ، شد . و اسم الفاعل منه عاقل ، و مصدره عقل

    ب ـ العقل اصطلاحا :

    هو القوة المدركة من الإنسان ، به يدرك الأشياء و يميزها على تفاوت بين الأشخاص في هذه القوة : فمنهم عاقل و منهم أعقل . و العقل على التحقيق هو : باطن الإنسان و غيبه الذي نشهد أثره و لا نشهده ، و هو الذي يُكسب الإنسان صفته الإنسانية من بين باقي المخلوقات على الأرض ، و هو المخاطَب و المكلف من الإنسان ، و المتحكم و الموجه لسائر أعضاء هذا الإنسان .

    2 . مآخذ العقل :

    أولا : الحواس:

    إننا لنجد من أوضح معاني العقل : الحبس و التقييد ، إذ إن العقل عند إدراكه الكون ، إنما يقتبس عينات مقيدة يضبطها عبر حواسه ، و لا يمكنه إدراك كل الموجودات على الإجمال .

    فالعقل عبر الحواس ، و هي أولى مآخذه ، إنما يدرك بالعين مثلا ، ما يدخل تحت إحاطتها ، و يغيب عنه ما يخرج عن تلك الإحاطة . و لذلك فهو لا يدرك عظائم المخلوقات كالسماء أو البحر على العموم ، كما تغيب عنه في مقابل ذلك دقائق المخلوقات و صغارها كالخلايا أو الذرات . فهو إذن ، لا يتمكن من إدراك كل المبصرات بالعين ، و إنما يدرك جزءا معينا من تلك المبصرات ؛ كما يدرك بواسطة الأذن مجالا معينا من الأصوات و يغيب عنه منها ما يخرج عن هذا الإدراك ، مما هو أعلى من ذلك المجال أو أدنى .

    و قس على هذا باقي الحواس ، من شم و ذوق و لمس .

    بل إن مدارك العقل نفسها ، تختلف باختلاف الأشخاص ، كأن تجد شخصا يستطيع إبصار ما لا يبصره غيره ، أو أن يسمع ما لا يتمكن من سماعه غيره . بل قد يتعدى اختلاف هذه المدارك حدود الإنسان إلى الحيوان ، الذي يشترك معه في هذا المأخذ الأول للعقل : فتجد حيوانا ما ، يدرك بحاسة من حواسه ما لا يدركه الإنسان بنفس تلك الحاسة .

    و على هذا ، فإن المعنى اللغوي للعقل الذي يفيد التقييد ، يصدُق على عقل الإنسان كقوة إدراك من حيث هذا المأخذ .

    ثانيا : الفكر :

    التفكر عملية يتميز بها الإنس و الجن عن بقية المخلوقات : و هي من أحب الأعمال إلى العقول و العقلاء ، إذ تعطيهم لذة عظيمة أثناء تصرفهم في المعلومات ، تصرف السيد في عبيده ، و الملك في مملكته .

    قد تسبب هذه اللذة الناتجة عن التفكر إدمانا لصاحبها ، و قد تجعله شديد التعصب لها ، بل و قد تسترقه و تصيّره عبدا لها لا يستطيع الخلاص منها .

    و كما أن العقل مقيد من حيث المأخذ الأول الذي هو الحواس ، فإنه مقيد كذلك من حيث الفكر ، كما سنبين ذلك إن شاء الله ، عند بسط هذه العملية بالتفصيل . و نكتفي هنا بضرب أمثلة على التقيّد :

    ـــ إن العقل من حيث الفكر قد يقع في الغلط ، فتجد أن ما توصل به عقل ما إلى نتيجة ما ، يتوصل به عقل آخر إلى نتيجة أخرى مغايرة ، فيكون أحد العقلين بهذا غالطا ، إن لم يكونا معا ، و يكون الغلط بالتالي ، نقصا في احتمالات الصواب ، مما يعطي للعقل محدودية كما تقدم .

    ـــ إن عملية التفكر لا تفيد كثيرا فيما وراء الحس (المعاني التي وراء الحس) ، فتجد العقل هنا لا يكاد يضبط ما يتفكر فيه ، فتكون بذلك أغلب نتائجه مظنونة .

    ـــ إن لعملية التفكر ضوابط و شروطا تحكمها ، قد لا يحسن الالتزام بها كل عقل ، أو قد لا تتوفر لديه ، فيكون الفكر مختلا بقدر عدم إحكام تلك الضوابط و الشروط ، أو عدم توفرها ، فيغيب عن العقل من النتائج ما يتناسب و هذا الاختلال.

    ثالثا : المأخذ الثالث :

    سنعرض له في الباب الثاني من هذا الكتاب ، إن شاء الله تعالى .

    3 . أسماء العقل :

    ا ـ التسميات المختلفة للعقل :

    يتبين من خلال ما سبق ، أن العقل الذي تناولناه ، غير مؤهل لأن يُعتمد عليه بالكلية في جميع ما يريد الإنسان إدراكه على الحقيقة ؛ لذلك وجب الكلام على آفاق العقل المختلفة و بيان خصوصية كل أفق منها .

    و في البداية يلزمنا رفع اللبس الذي يحيط بالعقل من حيث تسميات تطلق عليه كمرادفات أو تنسب إليه كصفات ، و هي : النفس والقلب و الروح

    فنقول مستعينين بالله :

    إن هذه الأسماء في الحقيقة تدل على مسمى واحد ، غير أن هذا المسمى له اعتبارات مختلفة تجعل الناظر إليه باعتبار ما ، يسميه باسم لا يسميه به إذا نظر إليه باعتبار آخر . و إننا نجد أقربها إلى الدلالة على حقيقته و خاصيته الكبرى : القلب . ذلك أن تسمية القلب من التقلب ، و من ضمن التقلب ، التقلب في الأسماء المختلفة . فهو تارة قلب و تارة نفس و أخرى عقل أو روح .

    ب ـ الاعتبارات الحاكمة على العقل :

    إن حقيقة الإنسان المستوية على التمام بين طرفي النقيض من وجود و عدم ، و نور و ظلمة ، تعطيه تسمية القلب لأنه في كمال قابليته للأمرين معا . و ميل القلب عن درجة الاعتدال تلك ، إلى أحد الجانبين دون الآخر ، يخرجه عن قلبيته و يجعله :

    ـــ إن غلبت عليه الظلمة و أحكام العدم ، يصير نفسا بهذا الاعتبار .

    ـــ و إن غلب عليه النور و أحكام الوجود ، يصير روحا بهذا الاعتبار .

    و هو عقل على كل حال ، بمعنى إضافة الإدراك إليه بصرف النظر عن كونه مخطئا أو مصيبا في هذا الإدراك .

    و قد نجد هذه التسميات التي ذكرناها موصوفة بصفات قد تخرجها عن الحد الأصلي لها ، حسب الاعتبارات المذكورة آنفا : كأن نسمع عن القلب المقفل ، فمعناه أنه مقفل عن النور ، فهو هنا إذن نفس ؛ أو كأن نسمع عن النفس المطمئنة ، فهي هنا روح .

    إن علمت هذا ، فإنك ستجد لهذه الحقيقة القلبية مرتبتين تفصيليتين بين النفس و القلب ، و بين القلب و الروح ، و ذلك حسب نزول هذه الحقيقة في تينك المنزلتين ، تستلزمان (أي المرتبتان) تسميتين أخريين هما : الفؤاد و الصدر .

    و إن عرفت ماذا نقصد بالتسميات ، فقل كما شئت و عبر بما تراه مناسبا .

    الفـصـل الـثـاني : العـقـل المـجـرد

    1 . صورة مبسطة :

    لقد وجد الإنسان نفسه بعد أن لم يكن (الإنسان هنا بالمعنى العام الافتراضي و ليس آدم) ، و جد نفسه مدركا لنفسه ، وسط مخلوقات قد تشبهه من أوجه و تمتاز عنه من أوجه أخرى ، بين سماء و أرض ، يتعاقب عليه ليل و نهار ، تتراوحه أحوال متباينة ، ملائمة لأغراضه تارة ، و غير ملائمة أخرى ؛ و وجد من نفسه انجذابا إلى أشياء حسب هذه الأغراض ، و نفورا من أشياء أخرى ، كما وجد من نفسه قوة تسعفه على التصرف في نفسه أو في غيره من الموجودات ، تبعا لما يعطيه إدراكه . غير أن ذلك لم يكن له دائما على التمام : فقد لاحظ أن الأشياء قد تنصاع له حينا ، و تستعصي عليه آخر : و ذلك كتوفر مصادر الأكل له مثلا في زمان دون زمان أو في مكان دون مكان ، أو مناسبة نوع من المأكولات له في حال دون حال ؛ فاحتار الإنسان في نفسه : أهو سيد الوجود ، بحيث يكون ما سواه عبيدا مسخرين له يتصرف فيهم كما يشاء ؟ ...فلا يجب أن يستعصي عليه شيء ، و لا أن يخالف إرادته شيء ! أم هو مسخر مثل غيره ، لا يملك من أمره شيئا ؟ فلمن هو مسخر ، و لم هو مسخر ؟ ... و لماذا يجد من نفسه بعض قدرة و بعض تحكم في مقابل ذلك ؟

    فصار الإنسان يتوق إلى الوصول إلى حل هذا اللغز الكبير ، و استعمل في ذلك كل قواه الحسية منها و العقلية ، فشرع يرتب معلوماته و يصنفها ، ثم يركبها تركيبا خاصا ينتج له معلومات جديدة ، و صار إدراكه يتطور شيئا فشيئا و يتوسع مع مرور الزمن ، فظن أنه يقترب من الحل ، حل اللغز الذي يحيره .

    و إلى جانب تعطشه إلى العلم بحقيقة الأمر ، أو قل قبله ، كان الإنسان يتحرك حسيا و معنويا في هذا الوجود بدافع حافزين اثنين ، هما :

    ـــ دفع الضرر .

    ـــ و جلب المنفعة .

    و كلاهما يندرج تحت معنى واحد هو : المحافظة على بقاء الفس .

    فمن قبيل دفع الضرر : احتماؤه من الحر و القر ، و اتقاؤه من الحيوانات التي تكون خطرا على حياته ، إلى غير ذلك من المضار .

    و من قبيل جلب المنفعة : توفير المأكل و المشرب للإبقاء على حياته و قوته ، و البحث عن سبل تنمية مداركه ، إلى غير ذلك من المنافع .

    لكن من حقق النظر ، يجد أن جلب المنفعة يعود في الأصل إلى دفع الضرر ، فتوفير المأكل و المشرب مثلا ، إنما هو في الأصل لدفع ضرر الجوع و العطش في المرتبة الأولى ، ثم دفع ضرر الموت في المرتبة الثانية ، و هكذا في كل أمر على التفصيل . غير أن إدراك هذا الأمر على سبيل التحقيق ، ليس في مقدرة العقل في هذا الطور .

    كما يلاحظ أن النتائج لم تكن دائما موافقة لإرادة الإنسان في هذا المجال : فهو من حيث يريد دفع الضرر ، قد يقع فيه ؛ و من حيث يريد جلب النفع ، قد يجر على نفسه ضررا لم يكن متوقعا لديه .

    و مع مرور الزمن ، صارت هذه الصورة المبسطة لمظاهر حياة الإنسان ، تزداد تعقيدا و تشعبا حتى لتكاد تخفى أصولها عن جل العقول . و مع تطور الإنسان ، و توصله إلى تحقيق بعض أغراضه ، صارت الكماليات تتولد عن الضروريات ، ثم تصير الكماليات أشبه بالضروريات . فينطلق الإنسان سعيا وراء تحقيق أغراض و كماليات لا تكاد تنحصر ، إلى أن بلغ الحال إلى ما هو عليه اليوم .

    لكن هل خرج الإنسان من حيرته ؟ و هل وجد الأجوبة الشافية عن أسئلته ؟ ذلك ما يشهد على نفيه أغلب ما توصل إليه الإنسان من خلال مسيرته العقلية ؛ باستثناء قلة ممن سنتعرف عليهم في الباب الثاني من هذا الكتاب ، إن شاء الله تعالى .

    من خلال وظائف العقل الإنساني ، المتعلقة بمختلف مظاهر إسهاماته في تطور الحياة البشرية ، نستخلص خاصيات لهذا العقل ، منها :

    ا ـ قدرته على خزن المعلومات .

    ب ـ قدرته على تذكر المعلومات المخزونة عند الحاجة إليها .

    ج ـ تجريد المدركات الحسية من صورها ، و العبور إلى معانيها : و ذلك كالعبور من صورة المصباح مثلا إلى معنى الإنارة ، و من صورة السلاح إلى معنى القتل .

    د ـ خلع صورة محسوسة على المعاني المجردة (التصوير) : و ذلك كمنح معنى الإنارة صورة المصباح ، أو معنى القتل صورة السلاح ، وهي (أي هذه الخاصية) عكس سابقتها ، لذلك هما متكاملتان بالنظر إلى دورهما في العمليات العقلية .

    ه ـ التخيل : و هو تركيب مدركات حسية لها أصل في الواقع على هيئة لا توجد عليها في الواقع ، و ذلك كما يفعل مؤلفو القصص الخيالية مثلا ، أو كأن تتخيل إنسانا له رأس ذئب و أذنا حمار و ذنب أسد مثلا .

    هذه الخاصيات التي ذكرناها ستعمل على إثراء عملية عقلية رئيسة في هذا الطور ، هي عملية التفكر .

    2 . الفكــر :

    الفكر هو استعمال معلومات ثابتة الصحة عند العقل للتوصل إلى معلومات جديدة . و أولى المعلومات ثابتة الصحة لدى العقل ، و التي كانت منطلقا لعملية التفكر هي البديهيات التي هي شطر المسلمات ، و التي تقبل العقل صحتها من دون برهنة عليها ، بل هي لا تقبل البرهنة ، و ذلك كإدراك الإنسان لوجود نفسه . بخلاف من أراد الاستدلال على وجوده كما سيأتي . و كعدم اتصاف شيء بنقيضين في نفس الوقت ، الذي هو من المسلمات ، و ذلك كأن تقول : إن الرجل طويل قصير ، أو إن الثوب جديد بال ، هذا مبلغ الفكر .

    ثم إن العقل يضم معلومتين تشتملان على عامل مشترك (الحد الأوسط) إلى بعضهما ، فينتج له ذلك علما جديدا لم يكن لديه ، و هذه المعلومة الجديدة يضمها إلى أخرى فتنتج له نتيجة أخرى ، و هكذا ... فالمعلومتان الأوليان اللتان تضمان إلى بعضهما هما المقدمتان ، و المعلومة الجديدة هي النتيجة .

    يتضح من هذا ، أن عملية التفكر عملية تسلسلية توالدية ، تنبني على أصل ثابت لدى العقل غير متولد عنه ، إذ لو تولدت عنه لكانت البديهيات مبرهن عنها .

    ضوابط الفكر :

    إن الفكر الذي يعتمد في مساره طرق البرهنة المعروفة، لا بد أن يتقيد بضوابط و شروط كي يضمن عدم الزلل ، و من ذلك :

    ـــ لا بد من علم الأصول و الفروع ، و الكليات و الجزئيات ، و علم النسب المختلفة بين أمرين أو أكثر : كالتقابل و التضاد والتناسب و التوافق و التطابق ، و غير ذلك ...

    ـــ تمييز العلوم المهارية العملية من العلوم النظرية الصرف .

    ـــ قابلية المراجعة و التدارك و التصحيح .

    ـــ قابلية المقارنة مع فكر آخر .

    Admin
    Admin
    Admin


    المساهمات : 1949
    تاريخ التسجيل : 10/01/2008

    كتاب يقرب التصوف Empty رد: كتاب يقرب التصوف

    مُساهمة  Admin الأربعاء مايو 16, 2012 1:57 am

    و بما أن عملية التفكر عملية مترابطة ، فإن بعض أجزائها متوقف على البعض الآخر : فلو افيرضنا أن الخطأ تسرب إلى جزء منها ، فإن كل الأجزاء المترتبة عنه باطلة ، تجب إعادة النظر فيها بعد تصحيح الخطإ في الجزء السابق لها .

    ثم إن عملية التفكر تتبع خطا معينا مستندا في توجهه إلى مبدإ يحكمه و يوجهه في كل مرة . هذا الخط هو النسق الفكري ، و المبدأ الموجه هو المنطق . إذن فللفكر عدة أنساق حسب احتمالات استعمال المعلومات التي لدى العقل ، و هو محكوم بعدة أنواع من المنطق نُرجعها إلى اثنين

    أساسيين :

    ا ـ المنطق المجرد : و هو الذي يتحرى الصحة و الصدق دونما أي اعتبار آخر . و هذا المنطق غالبا ما تكون نتائجه صحيحة .

    ب ـ منطق الهوى : و هو المنطق الذي له اعتبارات أخرى تحددها الأهداف العامة لعملية التفكر ، قد يقدمها العقل على الصحة ، و بذلك تكون نتائجه فاسدة بقدر ابتعادها عن المنطق المجرد .

    نماذج من الفكر المحرف :

    ـــ الفكر الجدلي : ينحرف صاحب هذا الفكر عند تقديمه اعتبار إفحام الخصم على اعتبار الحق .

    ـــ الفكر السياسي : قد ينحرف السياسي عن الحق إن هو قدم اعتبار اكتساب المؤيدين و الأنصار على اعتبار الحق ، أو قدم اعتبار غلبة الخصم على اعتبار الحق ، و هكذا ...

    ـــ الفكر التجاري : ينحرف التاجر أو رجل المال عن التفكير السوي إن اعتبر الربح أكثر مما يعتبر الحق ، أو اعتبر عدم الخسارة أكثر من اعتبار الحق .

    يتبين من كل هذا أن لكل هوى منطق . و الأهواء متعددة تعدد الأغراض ، فينتج عن ذلك عدة أنواع من الفكر تلتقي مع بعضها أحيانا ، و تتضارب أخرى .

    3 . آفـــات الفكر :

    من خلال ما سبق ، يتضح أن الفكر ليس معصوما ، و أنه معرض لآفات منها :

    أ ـ احتمال الخطإ بسبب تشعب عملية التفكر و كثرة الضوابط لها و طول النسق المحدد لمعالمها .

    ب ـ اتباع الأهواء ، و هو ما يحرف الفكر عن وضعه الأصلي .

    ج ـ جهل الضوابط التي تحكم العملية أو عدم إتقانها .

    د ـ التقليد : و هو يؤدي إلىعدم التثبت من مكونات الأنساق ، بسبب ثقة في الغير أو تأثير هذا الغير ، مما يزيد من احتمالات الخطإ .

    ه ـ التعصب للفكر ، و هو ناتج عن الثقة المطلقة بالفكر ، و اعتقاد أنه بإمكانه التوصل إلى جميع المعلومات المرادة للعقل . و هو بهذا الاعتبار قيد للعقل إلى جانب قيد الحواس الذي ذكرناه سابقا ، عوض أن يكون عونا له على الترقي في مدارج الإدراك الممكنة .

    و ـ التشعب : وهو احتمال تزويج كل معلومة لكل معلومة أخرى ، مما يجعل المتفكر أحيانا يمر بجانب الحل الصحيح ، أو ما يجعله يتوصل إلى الحل ، لكن عن طول في التفكر ، كان من الممكن تلافيه .

    4 . بيان نماذج من الفكرفي قضية الوجود و الرد عليها بإيجاز :

    ا ـ المنهج الشكي الديكارتي :

    شلع في الآفاق ذكر ما يسمى لامنهج المنهج الشكي الديكارتي ، و اعتمد كمذهب فكري حجة . و شاعت مقولة ديكارت الشهيرة : أنا أفكر، إذن أنا موجود . الواضح أن ديكارت أراد هنا أن يستدل على وجوده ، فنقول :

    أولا : إن وجود المرء عند نفسه ، لا يستدل عليه ، لأنه بديهية مسلمة ، و البرهنة على البديهية نكث لغزل . فإن قيل إن البرهنة على البديهية أبلغ في صحة الفكر ، قلنا ، بل هي نقض للفكر من أساسه ، إذ لولا البديهيات المسلمة ما ظهر للفكر وجود .

    ثانيا : استدل ديكارت على وجوده بعملية فكره ، و هي عمل عقلي ، و العقل صفة للمستدل(اسم فاعل) و الفكر فعل له ، و البرهنة في هذا الاتجاه باطلة . فهي كالاستدلال على الأصل بالفرع أو الجوهر بالعرض ، و هذا إخلال بالمراتب العقلية التي تقتضي الاستدلال على الفكر بالعقل و على العقل بذات المستدل .

    ثالثا : إن المقولة المذكورة ، لا تنطلق من الشك : فكلمة أفكر مستندة إلى أنا ، و أنا يقين لا شك . فهو إذن انطلق من وجود إلى وجود ، و هذا من قبيل تحصيل الحاصل و لغو الفكر .

    رابعا : لا يمكن بتاتا الانطلاق من الشك المطلق في عملية التفكر المتعلق بالوجود : ذلك أن الشك المحض ، استواء تام بين رتبتي الوجود و العدم ، فاحتيج إلى مرجح حتى تقع الحركة العقلية ، فإن وقع الترجيح للعدم عقلا ، لم يصح أن يكون أساسا للفكر ، إذ العدم لا يبنى عليه ، و إن و قع الترجيح للوجود ، فالعملية الفكرية، يكون وقتها انطلاقها من يقين لا من شك .

    فيبقى أن الشك المقبول عقلا ، ليس هو : هل هو موجود أم لا ، و إنما : هل هو كذا أم كذا . و هذا خلاف هذا المذهب . فتبين بعد كل هذا بطلان هذا المذهب ، و بطلان مقولته . و إننا لنعجب كيف لم يتصد لدحضه و بيان عواره أحد ، مع كثرة المفكرين في هذا العصر .

    ب ـ الفكر الإلحادي المعطل :

    يقوم هذا المذهب الفكري على أساس " لا إله" مع إثبات وجود الكون بما فيه القائل بهذا المذهب . فنقول :

    أولا : لا بد لهذا الكون من أحد أمرين ، بما أنه مشهود الوجود :

    ـــ الأمر الأول : أن يكون وجوده عن نفسه .

    ـــ الأمر الثاني : أن يكون وجوده عن غيره .

    بسط الأمر الأول : وجود الكون ليس قديما لسبقه بالعدم ، و هذا أمر ظاهر ، و الكون في حالة العدم لا يكون عنه وجود ، فكيف إذاً يمكن للكون أن يوجد نفسه ؟ فتبين بطلان الاحتمال الأول .

    بسط الأمر الثاني : و هو أن يكون وجود الكون عن غيره ، و له احتمالان :

    إما ان يكون هذا الغير مشابها للكون أو أن لا يكون ، فإن كان مشابها للكون ، احتاج إلى موجد له ، و الموجد إلى موجد ، إلى ما لا نهاية ، و هو أمر غير ممكن عقلا . و إن كان هذا الموجد غير مشابه للكون من حيث الوجود ، لا بد أن يكون وجوده ذاتيا (لاستحالة التسلسل) ، و غير مسبوق بعدم ، و هو معنى القدم ( بسبب وجوب هذا الوجود) . أما الوجود التابع لهذا الوجود ، و هو وجود الكون ، و الذي يأتي في المرتبة العقلية الثانية ، فهو الوجود الواجب بغيره، و هو أيضا الوجود الممكن ، و ذلك بالنظر إلى مرتبته الأصلية التي هي العدم ، و مرتبته الحالية التي هي الوجود ؛ و وجود الممكن هو عين ترجيحه ، و المرجح هو واجب الوجود بنفسه . فتبين من هذا ، أن للكون موجدا قديما ، صفة الوجود له ذاتية .

    فإن قيل : إن الكون وجد عن الطبيعة ، و هو قول الطبيعيين ، نقول : إما أن تكون الطبيعة موجودة بغيرها ، فتلحق بمرتبة الممكنات ، و هذا ما لا يؤهلها لأن توجد الكون : فكما قلنا سابقا إن الممكن أصله عدم ، و العدم لا يكون عنه وجود . و إما أن تكون قديمة ، صفة الوجود لها ذاتية ، فيكون الخطأ وقع في إطلاق الاسم لا غير .

    و إن قيل : إن الكون وجد عن صدفة ، كما يقول كثير ممن يعد نفسه عاقلا هذا الزمان ، فنقول :

    أولا : إن الصدفة هي عدم القصد في الإيجاد ، و هو عدم ، و العدم لا يكون عنه وجود كما قلنا .

    ثانيا : إن تأملنا الكون وجدناه على ترتيب معين ، و نظام متسق بيّن ، فإن كان وجوده صدفة (افتراضا) فقد تبع هذه الصدفة الأصلية عدد غير متناه من الصدف ، و الصدفة المتكررة أو المتعددة ، تبطل منطق الصدفة ، إذ التكرار و التعدد يفيد القصد . فلو قلنا مثلا إن الإنسان الأول نتج عن صدفة ، فالذي بعده (ولده) يجب أن ينتج عن صدفة أخرى ، و ولد الولد عن صدفة ثالثة ، لتبين للعقل السليم أن هذا لا يستقيم ، و أن وجود الإنسان مقصود لموجده .

    ج ـ الفكر الدهري أو التاريخي بالتسمية المعاصرة : و هو قريب من سابقه :

    يدعي هذا المذهب أن الكون موجود ، لكن وجوده بغير غاية ، بل هو (أي الكون) الذي يحدد مساره في هذا الوجود . و الوجود عند هؤلاء دنيوي لا آخرة فيه . يتبين أن هذا المذهب كسابقه ، إلا أن الأول وقعت له الشبهة في القصد للوجود و هو البدء، بينما هذا الثاني وقعت له في الغاية من الوجود و هي النهاية . فنقول :

    أولا : إن عدم ترتيب حكمة عن إيجاد الكون ، الذي هو العبثية ، لا يمكن أن يصدر عنه وجود لعدميته كما سبق مرارا .

    ثانيا : و كما أن الصدفة لا يمكن أن تكون بداية للنظام ، لعدم صحة القول بتسلسل الصدفة ، فكذلك العبثية لا يمكن أن تُسبق بالنظام لوجوب تسلسل العبثيات قبلها ، و هو ما لا يقبل عقلا .

    د : المذهب المادي ، او ما يسمى زورا بالعلمي :

    أصحاب هذا المذهب لا يعترفون إلا بالمحسوس ، فما أثبتته حواسهم و عقولهم بالتبعية لها ، أقروا به ، و ما لم يدركوه بهذه الطريقة أنكروه .

    فنقول :

    أولا : إذا كان العقل غير مشهود للحواس ، و هم يحكمون على غير المشهود بالعدم ، فكيف يستندون في مذهبهم إلى عدم ؟ فإن قيل إن العقل هو الدماغ و الدماغ مشهود ، قلنا : فعملية التفكير غير مشهودة . فإن قيل : هي كهرباء سارية في الدماغ ، قلنا : هل قستم تلك الكهرباء بحيث تستطيعون قراءة أفكار إنسان ما ، بمجرد قياس أقدار كهرباء دماغه ؟ فإن قالوا : لا ، قلنا لهم : فكيف تثقون بنتيجة غير مجربة عندكم ؟ و لزمهم إذ ذاك : إما الرجوع عن مذهبهم ، أو القول بعدم وجود عقولهم .

    ثانيا : إن المادة نفسها منها ما هو مدرك(اسم مفعول) لنا ، و ما هو غير مدرك ، فما هو مدرك لنا بالحواس لا خلاف عليه مع تباين في الإدراك بين الأشخاص : فقد يدرك بالحواس شخص ما ما لا يدركه غيره كما سبق ، فيكون ما هو مشهود للأول غيبا عند الثاني ؛ غير أن التفاوت في مجال الحواس ضئيل ، لذلك نجاوزه إلى غيره : و هو أن من الماديات ما لم يكن مدركا في الأزمنة الماضية ( كالجسيمات الصغيرة مثلا) ، و أصبح مدركا في زماننا بواسطة الآلات و الأجهزة المتطورة . فإن نظرنا إلى تسلسل الأزمان ، وجدنا أن ما كان غيبا عند قوم أصبح شهادة عند آخرين ، و التطور مستمر ، و الأجهزة متسارعة في التطور ، فدل هذا على أن من المادة ما هو غيب دائما . فإن كان الأمر كذلك ، وجب حسب مذهب هؤلاء إنكاره ، فإن أنكروه و ثبت وجوده شهادة مستقبلا ، لزم أنهم أنكروا موجودا مشهودا ، بصرف النظر عن الزمان . فتبين فساد مذهبهم .

    ثالثا : نضرب مثلا على الوجود غير المادي فنقول : اللفظة ، إن كانت مكتوبة فمادتها الرسم وهو مداد على ورق ، و إن كانت منطوقة ، فمادتها الصوت و هو ذبذبات في الهواء ؛ لكن مدلولها ، أتراه ماديا ؟ ! و لا خلاف على ثبوت المدلول .

    و خذ على ذلك مثلا : كلمة "معنى" و جرب .

    فثبت بعد هذا كله ، أن ما يسمى بالفكر المادي أو العلمي التجريبي ، إنما هو فرع من العلم و ليس هو كل العلم ، حتى يظن أن كل ما خرج عنه يعد خرافة و هذيانا كما يُزعم .

    5 . خــــلاصة :

    ـــ نهاية الفكر السليم في الإلهيات هي : العلم بوجود الإله (لا العلم به) ، مع نفي صفات المحدثات عنه ، و هو ما يسمى السلب ، خلافا لمن اعتقد أن السلب هنا تعطيل ، بل هو إثبات تنزيه لكن لا على التفصيل في هذه المرحلة من مراحل إدراك العقل ، و التي سنتعرف عليها في ما سيأتي إن شاء الله تعالى .

    فإن زاد الفكر على هذا في الإلهيات ، فإنما سيقع في سقطات فكرية تهوي به إلى درك العقل غير السليم .

    ـــ يبقى للفكر دوره في العلوم الكونية (التي تتعلق بالمخلوقات) كالطب و الفيزياء و الفلك أو العلوم العقلية كالرياضيات و المنطق ؛ هذه العلوم التي يتقدم فيها الإنسان بحسب جهوده الفكرية المتجمعة عبر العصور ، و التي لا ينكر دور الفكر فيها إلا جاهل . كما يبقى للفكر دوره الأساسي ، ألا و هو الدور المعاشي و تدبير حياة الإنسان بحسب مستجدات الظروف و الوقائع .


    الباب الثاني : العقل المعضد


    الفصل الأول : الإيمان و الكفر :

    1 . الفطرة :

    عندما ثبت لدى العقل السليم وجود موجد له ، علم بمنطقه الاستدلالي أنه مرتبط بموجده ارتباطا لا انفكاك له عنه ، هذا الارتباط هو المسمى مألوهية ؛ و ثبت له في مقابل مألوهيته ألوهية موجده ، فتميزت لديه المرتبتان : الألوهية و المألوهية . ثم بطريق القياس و الاستنتاج ، و بما أن وجوده مستفاد من الإله ، توصل إلى أن ما يتعلق بوجوده من صفات و أفعال ( الأعراض) ، هو أيضا مستفاد من الإله بالأحروية ، فظهر له أنه لن يعلم نفسه حقيقة و لا إلهه من نفسه ، بل بإعلام من إلهه ، فانكسر و نزل إلى المرتبة السفلى راضيا منتظرا ما يفيضه عليه إلهه من مواهب .

    و هذه المنزلة هي منزلة الفطرة التي فطر الله الناس عليها ، و هي منزلة الموفقين من أهل الفترات الذين كانوا قبل البعثة المحمدية و لم يدركوا رسولا ، أما اليوم ، فلم يعد لهذا الصنف من الناس وجود بسبب استغراق الرسالة المحمدية للزمان إلى قيام الساعة . و هذه المنزلة هي أيضا التي يولد عليها الإنسان لقول رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم : كل مولود يولد على الفطرة ، فإنما أبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه .<متفق عليه>

    2 . الإيمان أو الكفر :

    سمع العقل أن رجلا يدعي أن الإله أرسله لباقي بني جنسه: يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا . و أنه يخبرهم عن هذا الإله ، عن صفاته و عن أفعاله ، و يبلغهم أوامره و نواهيه ، و يعلمهم كيف يتقربون من إلههم حتى ينالوا رضاه . فرجع العقل إلى نفسه يمحص و يتحرى ، فتبين له أن هذا الأمر جائز في عرفه ، لكن لا بد له من علامة يميز بها بين الرسول الحق و بين من يدعي هذه المهمة زورا .

    فانبرى الرسول يتحدى الناس بأمور لا يستطيعون الإتيان بها ، و هي المعجزات ، التي هي قولية و فعلية :

    ـــ القولية : ما يتعلق بالإخبار عن الله بما لا يعلمه إلا الله عن نفسه ، أو بالإخبار عن الوقائع التي لا زالت في رحم الغيب ، حتى إذا وقعت جاءت كما أخبر الرسول .

    ـــ و الفعلية : ما وقع من الرسول من تصرف في الكون ، كشق البحر ، و إبراء الأكمه ، و تكثير الطعام القليل ، و تفجير الماء من بين الأصابع ، إلى غير ذلك ...

    هنا ، وجد العقل نفسه ، بعد استنفاد كل سبل التحري و التثبت أمام سبيلين :

    الأول : أن يصدق الرسول فيما جاء به .

    و الثاني : أن يصد عنه و يتولى .

    و لا سبيل له من نفسه إلى سلوك السبيل الأقوم إلا بتوفيق من الله تعالى :و ما كان لنفس أن تومن إلا بإذن الله . فإن أذن الله له في الإيمان وجد نفسه منقادا للرسول و كان ممن قال الله فيهم : و قالوا سمعنا و أطعنا .و انفتح له مع الإيمان أفق جديد لم يكن مدركا له من قبل : أفق يجاوز الحدود التي كانت تحيط به و تقيده : هو الذي ينزل على عبده آيات بينات ليخرجكم من الظلمات إلى النور . و الظلمة تقييد و النور فسحة .

    و أما إن لم يوفق ، فسينكر ما جاء به الرسول ، إما عموما : كمن يكفر بجميع الرسل ، و إما خصوصا كمن يومن ببعض و يكفر ببعض : أي يومن برسول سابق ، و يكفر بالرسول الذي أدركه زمانه . و في الحالتين سيمكث في ضيقه كما وصف الله ذلك بقوله تعالى : و من يرد أن يضله يجعل صدره ضيقل حرجا كأنما يصعد في السماء .كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يومنون .

    و على التحقيق ، فإن الإيمان و الكفر وجهان متقابلان للقلب : فمن آمن بالله ، كفر بسواه من الآلهة المزعومة ، و من كفر بالله آمن بسواه ، و ذلك كما قال الله تعالى : فمن يكفر بالطاغوت و يومن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها . و قال أيضا : و الذين آمنوا بالباطل و كفروا بالله ، أولئك هم الخاسرون .

    و الإيمان المقصود هنا في هذه المرحلة ، إنما هو إيمان مجمل . هو أقرب إلى مدلوله اللغوي ، أي مطلق التصديق . و هو نور يقذفه الله بفضله في قلب من يشاء من عباده ، و هو قد يوجد لدى عقول ليس لها تمرس بالفكر و النظر ، بل قد يوهب لعقول ساذجة بسيطة فطرية . فهو إذن ليس نتاجا فكريا ، و لو كان كذلك ، لكان حكرا على الأذكياء و الفطناء من بني الإنسان .

    و هذا النور بالنسبة للعقل، كالنور المحسوس بالنسبة إلى العين ، يكون وسيلة لإدراك ما لم يكن يدرك من المعلومات الوجودية التي كانت عنده قبل هذا ، من قبيل العدم . و هذا الإيمان يسير بالعقل في مجال جديد، قد يصحح على ضوئه سابق مدركاته إن لم يغيرها أصلا .

    أما الكفر : فهو انطماس هذا النور و انقطاع أسبابه انطلاقا من معناه اللغوي الذي هو الستر و الحجب ، حتى أن الفلاح و الليل يسميان كافرين .

    و بما أن الإيمان نور ، فإن الكفر ظلمة تغشى العقل ، فلا يدرك بمقتضاها معلومات وجودية هي عند المؤمن من ضرب البديهيات أحيانا لوضوحها . فانظر ضيق العقل الكافر و حرمانه ! فتجد المؤمن يدرك بنور إيمانه ما يتعدى حدود فكره و نظره ، و تجد الكافر لا يستطيع أن يتجاوزهما ، هذا إن سلما له ، و ذلك كقول الله تعالى : يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا و هم عن الآخرة هم غافلون .

    3 . أسباب الكفر :

    إن كان الإيمان ينال بفضل من الله و رحمة ، فإن الكفر ترجع أسبابه إلى الإنسان نفسه . و من تلك الأسباب :

    ا ـ إيثار الحياة الدنيا ، لقول الله تعالى : فأما من طغى و آثر الحياة الدنيا فإن الجحيم هي المأوى .

    ب ـ اتخاذ الشيطان وليا من دون الله ، لقول الله تعالى : أفتتخذونه و ذريته أولياء من دوني و هم لكم عدو ؟ بيس للظالمين بدلا .

    ج ـ عدم الاهتمام ، لقول الله تعالى : ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث إلا استمعوه و هم يلعبون ، لاهية قلوبهم .

    د ـ عدم العلم ( أي إدراك حقائق الأشياء ) ، لقول الله تعالى : بل أكثرهم لا يعلمون الحق ، فهم معرضون .

    ه ـ عدم صفاء الإدراك ، الذي يؤدي إلى انبهام الأمور ، فيظن المرء أمرا ما ، أمرا آخر ،و ذلك كقوله تعالى :فلما جاءهم الحق من عندنا قالوا إن هذا لسحر مبين . لجهلهم بحقيقة السحر ، المخالفة لحقيقة الوحي .

    و ـ الكبر ، لقول الله تعالى : فقال الملأ الذين كفروا من قومه ما نراك إلا بشرا مثلنا و ما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي و ما نرى لكم علينا من فضل ، بل نظنكم كاذبين . و كما قال أيضا : قال الذين استكبروا إنا بالذي آمنتم به كافرون .

    ز ـ الغفلة ، لقول الله تعالى : و لقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن و الإنس : لهم قلوب لا يفقهون بها ، و لهم أعين لا يبصرون بها ، و لهم آذان لا يسمعون بها ، أولئك كالأنعام بل هم أضل ، أولئك هم الغافلون . هذا رغم أن حواسهم في ظاهرها سليمة ، إلا أنها ، و بما أنها لم تؤد مهمتها الأساسية ، و هي أن تكون و سيلة لاعتبار صاحبها فيما يستعملها فيه ، قد أصبح حكمها حكم عدمها ، فكانت العين عمياء حكما ، و الأذن صماء بهذا الحكم أيضا ، و هكذا ...

    ح ـ إرادة الدنيا ، لقول الله تعالى : من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموما مدحورا . و لقوله أيضا : الذين يستحبون الحياة الدنيا على الآخرة و يصدون عن سبيل الله و يبغونها عوجا أولئك هم في ضلال بعيد .

    ط ـ الديانة بغير دين الحق ، لقول الله تعالى : و لا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب .و لقوله أيضا : و من يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه ، و هو في الآخرة من الخاسرين . و لقوله تعالى أيضا : إن الدين عند الله الإسلام .

    ي ـ الشرك ، لقول الله تعالى : اتبع ما أوحي إليك من ربك ، لا إله إلا هو ، و أعرض عن المشركين .

    4 . رفع للبس :

    سمعت بعض العقول قوله تعالى : فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ، و من يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا....و أمثاله ، فقالت : بما أن الهداية و الضلالة بإرادة من الله ، فكيف يثاب العبد في حالة الهداية و يعاقب في حالة الضلال، و هو لا يد له فيهما معا ؟ و حكى الله تعالى عن قوم قولهم : سيقول الذين أشركوا : لو شاء الله ما أشركنا نحن و لا آباؤنا ، و لا حرمنا من شيء . كذلك كذب الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا ، قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا ؟ إن تتبعون إلا الظن ، و إن أنتم إلا تخرصون ، قل فلله الحجة البالغة ، فلو شاء لهداكم أجمعين . و انظر كيف جعل الله حل هذه المسألة بالعلم ، إذ لو كان لهؤلاء القائلين علم بالأمر ما قالوا ما قالوا ، و لكن لما غلب عليهم الظن ، و هو علم غير ثابت الصحة ، قامت حجة الله عليهم بجهلهم . و لو كان لهم علم بالأمر لقالوا كما قال الله تعالى : إن الله لا يظلم مثقال ذرة . و لأدركوا معنى قوله تعالى : إن الله لا يظلم الناس شيئا ، و لكن الناس أنفسهم يظلمون . ذلك أن الله تعالى ما أخرج إلى الوجود إلا ما أراد ، و ما أراد إلا ما علم . و قد علم الله في المؤمنين صفة الإيمان ، فأوجدهم على هذه الصفة ، كما علم في الكافرين صفة الكفر ، فأخرجهم على صفتهم تلك . فما أتي الإنسان إلا من نفسه . و قد أشار إلى هذا المعنى قول رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم : ...فمن وجد خيرا فليحمد الله (لأنه هو الذي تفضل بإخراجه إلى الوجود )، و من وجد غير ذلك ، فلا يلومن إلا نفسه (لأنه على تلك الصفة في علم الله ) .< رواه مسلم >

    فقول العقول القاصرة إن الله سبحانه وتعالى ، بما أنه نسب إلى نفسه الهداية و الضلالة يكون ظالما ، باطل من هذا الوجه .

    و من وجه آخر : إن كل الوجود ، و ما ظهر من موجود إنما هو ملك لله تعالى ، فمن تصرف في ملكه ، فما ظلم ، بل الظالم من تصرف في ملك غيره و اعتدى عليه ، و هذا ما لا يصح في حق الله تعالى ؛ و إن كنا نرى أن الوجه الأول أقوى في الرد على هذه الشبهة .

    و على كل حال ، فإن علم هذه المسألة ليس في مقدرة العقل المجرد ، أو العقل المعضد في هذه المرحلة ، و إنما هو من علوم الكشف التي سنتطرق إليها فيما بعد إن شاء الله تعالى .

    5 . مرتبة الإنسان الكافر :

    لما كان هذا الكون لم يوجد عبثا و لا من غير قصد ، كان الوقوف على دلالته و الحقيقة المؤسسة لوجوده مطلب الإنسان العاقل و مطمح المتأمل الآمل في بلوغ منزل الطمأنينة التي تعز على أكثر العقلاء . فكان الوجود بهذا المعنى كتابا إلهيا بينا لمن فتح الله بصره و سمعه و قلبه ، و إلى هذا ، الإشارة بقول الله تعالى :ا قرأ باسم ربك الذي خلق ، خلق الانسان من علق . اقرأ و ربك الأكرم . الذي علم بالقلم . علم الانسان ما لم يعلم . و إنه لأمر عجيب أن يغيب هذا المعنى عن أغلب الناس ، حتى صاروا يستدلون بهذه الآيات على تعلم القراءة و الكتابة ، و يجعلونها أساسا للدعوة إلى التعليم بالمعنى الجزئي ، في المؤسسات الخاصة بذلك ، ناسين أو متناسين أن الأمر الإلهي الوارد في الآيات السابقة ، موجه بالدرجة الأولى إلى رسول أمي و أمة أمية ، و غافلين عن كون الرسول صلى الله عليه و آله و سلم ، المعصوم ، قد امتثل الأمر الإلهي و قرأ .

    فأي قراءة هي هذه ، غير التي أشرنا إليها ؟ و تدبر قول الله تعالى ، بعد الأمر بالقراءة : اقرأ باسم ربك الذي خلق ، لتعرف أن الكتاب المخلوق (الكون) هو المقصود بالقراءة ؛ و ما ذكرناه لا ينتقص من تعلم القراءة و الكتابة المعهودتين شيئا في كونهما واسطة لنيل العلوم أو سببا في حفظها و تدوينها .

    و لما كان الإنسان الكافر عاجزا عن تدبر الكون ، كانت حواسه معطلة من حيث الحقيقة ، و إن سلمت من حيث الحس : إذ الإدراك هو المقصود من وراء الحواس ، لا عين الحواس ، فلما انعدم الإدراك انعدم سببه بانعدامه حكما ، و انظر قول الله تعالى عن الكافرين : و لقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن و الإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ، و لهم أعين لا يبصرون بها ، و لهم آذان لا يسمعون بها ، أولئك كالأنعام بل هم أضل . أولئك هم الغافلون . لما فقد الإنسان إدراكه الذي هو روح حواسه ، فقد تبعا لذلك إنسانيته و نزل عن مرتبته إلى مرتبة الدواب ، بل الدواب أعلم منه بالأمر ، لأنها على وحي غريزي لا تحيد عنه : و أوحى ربك إلى النحل ... و لم تنزل عن مرتبتها الأصلية كما نزل هو .

    فانقسمت المرتبة الإنسانية لزوما إلى مرتبتين :

    ـــ مرتبة الإنسان الآدمي الذي تحقق بإنسانيته .

    ـــ مرتبة الإنسان الحيواني الذي هو إنسان بالصورة فقط ، لا بالحقيقة .

    فكان الكافر بهذا في حقيقته حيوانا من جملة الحيوانات ، و من تدبر ما قلناه في الواقع ، لوجده كما قلنا ؛ و يكفي للدلالة على ذلك الإشارة إلى بعض الصفات التي تظهر على هذا النوع من الإنسان ، و التي لا تختلف عن صفات الحيوانات المتوحشة أحيانا ، و ليس قصدنا هنا التفصيل .

    6 . العقل و الجنون :

    بما أن للعقل مراتب يتميز بعضها عن بعض من حيث الإدراك ، بل تتفاوت في ما بينها ، فبديهي أن تنكر بعض العقول ما يدركه البعض الآخر : لخروج مدركات طائفة عن دائرة إحاطة طائفة أخرى ؛ لذلك نجد العقول المرتبة في المراتب الدنيا ، و المحصورة غالبا في قيود الحس أو الفكر ، تتهم العقول المرتبة في المراتب العليا بالجنون : و الجنون إن رجعنا إلى معناه اللغوي ، و هو البطون أو الستر ، و منه جن الليل ، و الجن (و المقصود منه المخلوقات النارية أو النورية على السواء) و الجنين (اسم مفعول) و هو الطفل المستور في بطن أمه ، إلى غير ذلك ... إذا رجعنا إلى هذا المعنى ، فإطلاق الجنون صادق لخفاء المدرك و بطونه في حق طائفة دون أخرى ؛ و لكن إن رجعنا إلى المعنى العرفي المقصود منه أن المجنون هو من أصيب بمس من الشياطين يؤدي به إلى تخبط في التفكير و خلط في التعبير ، فهو باطل ، و هو ما نفاه الله تعالى عن رسله عندما اتهمهم قومهم بالجنون كما في قوله تعالى : و ما أنت بنعمة ربك بمجنون ، لمثل من حكى عنهم قولهم :و قالوا يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون .

    يتضح من كل ما سبق ، أن الجنون مراتب بحسب العقول الناظرة فيه : فالعقل المؤمن ، مجنون بنظر العقل الكافر ، و المحسن مجنون بنظر المسلم ، و هكذا فلتقس على كل المراتب . و لا بد هنا من الإشارة إلى أن الرسل عليهم الصلاة و السلام ، أو المبلغون عنهم من أتباعهم ، يتنزلون إلى العقول المرتبة في المراتب الدنيا حتى يستطيعوا إبلاغهم ما يريدون إبلاغهم إياه ، رحمة منهم و رأفة و حسن تربية و حكمة .

    الفصل الثاني : إسلام النفس : ( إن الدين عند الله الإسلام )

    بعد أن تركنا العقل الكافر الذي نزل عن مرتبة الإنسانية إلى مرتبة الأنعام في سجنه الذي لا يستطيع الخروج منه إلا بإذن ربه ، و تابعنا العقل السليم الموفق عند ولوجه منزل الإيمان ، نواصل الآن مع هذا الأخير مسايرتنا له أثناء دخوله في المرتبة الأولى من الدين ، و هي الإسلام .

    و إسلام العقل هو انقياده لله و رسوله صلى الله عليه و آله و سلم فيما يعلم و فيما لا يعلم ، في منشطه و مكرهه ، هذا الانقياد يورث القلب حال التوبة إلى الله (الرجوع إليه ) الذي سيلازمه في كل مراحل سلوكه التي سنعرفها لاحقا .

    و الإسلام كدين ، هو دين جميع الرسل عليهم الصلاة و السلام ، و جميع أتباعهم ، و قد بدأ مع أولهم (الرسل) و أخذ يتدرج في المراحل عبر العصور و الأزمان ، حتى بلغ منتهاه و كماله على يد سيدنا محمد صلى الله عليه و آله و سلم ، الذي أنزل عليه : اليوم أكملت لكم دينكم و أتممت عليكم نعمتي و رضيت لكم الإسلام دينا .

    و هذا التدرج الذي للدين في مدارج الكمال ، إنما هو بسبب اختلاف استعدادات الآمم المختلفة : فكان كل رسول يبعث إلى قومه بما يناسب استعدادهم ، و لما كانت الأمة المحمدية أشرف الأمم عند الله تعالى ، و أكملها استعدادا ، و كان رسولها صلى الله عليه و آله و سلم ، هو سيد الرسل عليهم الصلاة و السلام أجمعين ، كان الدين المحمدي هو الإسلام الكامل ، و بما أنه كذلك ، امتنع أن يرسل بعده رسول ؛ إذ لو أرسل لكان إما مساويا له أو ناقصا عنه : و المساواة تكرار ، و التكرار لا يجوز في حق الله الواسع ، كما أن النقص معاكس للحكمة لقول الله تعالى : ما ننسخ من آية أو ننسها نات بخير منها أو مثلها . فتبين أن الحكمة تقتضي التدرج من النقص إلى الكمال لا العكس ، فظهر أن لا شرع بعد شرعه صلى الله عليه و آله و سلم .

    جاء في حديث عمر رضي الله عنه : بينما نحن جلوس عند رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم ذات يوم ، إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب ، شديد سواد الشعر ، لا يرى عليه أثر السفر و لا يعرفه منا أحد ، حتى جلس إلى النبي صلى الله عليه و آله و سلم ، فأسند ركبتيه إلى ركبتيه ، و وضع كفيه على فخذيه و قال : يا محمد أخبرني عن الإسلام ، فقال رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم : الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله و أن محمدا رسول الله ، و تقيم الصلاة ، و توتي الزكاة ، و تصوم رمضان ، و تحج البيت إن استطعت إليه سبيلا . قال : صدقت . فعجبنا له يسأله و يصدقه . قال : فأخبرني عن الإيمان . قال : أن تومن بالله و ملائكته و كتبه و رسله و اليوم الآخر و تومن بالقدر خيره و شره . قال : صدقت . قال : فأخبرني عن الإحسان . قال : أن تعبد الله كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه فإنه يراك .(...) قال : ثم انطلق فلبث مليا ثم قال : ياعمر ، أتدري من السائل ؟ قلت : الله و رسوله أعلم . قال : فإنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم . < أخرجه مسلم و الترمذي و النسائي >

    فجعل الدين كل هذه المراتب : أي الإسلام و الإيمان و الإحسان ، ففهمنا أن من أكملها ، كان دينه كاملا ، و من عليه منها بقية ، كان دينه ناقصا بحسب ما بقي عليه .

    1 . مرتبة الإسلام :

    استنادا إلى الحديث السابق ، فإن مرتبة الإسلام لها أركان خمسة سنعرض لها ، لكن بغير التفصيل الفقهي المعهود ، إذ هذا ليس محله . هذه الأركان هي :

    ا ـ الشهادتان : طلب الشارع من العقل المؤمن إيمانا إجماليا أن يُعمل جارحة من الجوارح التي تقع تحت حكمه و هي اللسان ، و جعل عملها مع إقرار القلب بفحواه ، شرطا في دخول الإسلام كدين و كمرتبة . و الشهادتان في الحقيقة شهادة واحدة لها شقان لا يستقلان عن بعضهما :

    ـــ الشق الأول : أشهد أن لا إله إلا الله : و هو نفي الألوهية عن الأغيار و إثباتها للإله الذي أخبر الرسول صلى الله عليه و آله و سلم باسمه الله .

    ـــ الشق الثاني : أشهد أن محمدا رسول الله : و هو إثبات الرسالة التي هي التبليغ عن الله ، للرجل المكي القرشي المسمى محمدا صلى الله عليه و آله و سلم .

    مقتضى الشهادة : هو عبادة الله وحده باتباع سيدنا محمد صلى الله عليه و آله و سلم ، و الاتباع في هذا الزمان ، و في هذه المرحلة للعقل ، يقتضي اتباع الفقيه العالم بالأحكام الشرعية المبيّن لها ، ذلك نظرا لانتقال شخص الرسول صلى الله عليه و آله و سلم عن الدنيا .

    ب ـ الصلاة : و هي موعد ضربه الله تعالى للعبد خمس مرات في اليوم ، على هيئة مخصوصة ، ليعبده و يستعينه و يستهديه ، حتى يسلم له سيره قدما في طريق التقرب . و الصلاة أساس الدين بهذا الاعتبار ، الذي يجعلها مركز الاستمداد من الله للورود عليه ، فمن لا استمداد له لا أهلية له ، و من لا أهلية له ، لا قرب له .

    ج ـ الزكاة : و هي العبادة التي تجعل الغير من أسسها المشروطة لها ، فبإخراج الغني جزءا من ماله للفقير على وجه الوجوب ، تعمل الزكاة على توسيع دائرة ال "أنا" عند الغني حتى تشمل الفقير معه ، و تكون بذلك عملا لاحما للبنيان المسلم ، مانعا له من التصدع بسبب الأحقاد التي تنتج عادة عن صراع الطبقات ، كما في المجتمعات غير الإسلامية .

    د ـ الصوم : و هو عمل تنزهي تقدسي ، يقطع فيه الصائم استمداده من الأكوان ، و هو فتح للباب الخاص الذي للإنسان مع ربه ، و تخلص من الشوائب التي تصحب التعامل مع الكون .

    ه ـ الحج : و هو عبادة كاملة يؤديها الإنسان بكليته ، مهاجرا فيها إلى ربه قلبا و قالبا ، منقطعا فيها إليه تاركا لما سواه (و هو معنى الإحرام فيه ) .

    يتبين من خلال هذه الأركان أن عمل الجوارح ، قد انضاف إلى عمل العقل ، و هو بهذا (أي العقل ) قد مكن من التوصل إلى نتائج تعود عليه بتوسيع أفقه و إفساح مجال إدراكه ، فصارت الأعضاء و الجوارح له كالحواس ، إلا أن تحصيله عن طريقها يختلف ؛ و هو بهذا يخرج عن إدراك العقل المجرد أو العقل المسلم . لذلك تجد الكافر ينكر هذه الأعمال ، و المسلم يؤديها مستندا إلى الإيمان لا إلى العلم ، و نقصد بالعلم هنا ، العلم بحقيقتها .

    هذه الأعمال تعود على المسلم بواردات نورانية تنمي إيمانه و تؤهله إلى إدراك ما لم يكن يستطيع إدراكه فيما قبل ، فانظر ما أحوج العقل إلى هذه الأعمال المشروعة ، إن هو أراد أن يرقى في مدارج الكمال .

    2 . العقل في هذه المرتبة :

    العقل في هذه المرتبة كالعقل المجرد ، هو نفس ، و ذلك لغلبة شهود التعين على شهود نور الوجود ، فكان بذلك أن استولت الظلمة على العقل . و هو في مرتبة العقل المجرد ، لا يدرك الأشياء إلا كما تُدرك في الليلة الظلماء ، فهو إدراك تعين في ظلمة ، و لم يداخل العقل من النور إلا بقدر ما يقع التمييز به بين المتعينات و بين الظلمة الأصلية . أما في مرتبة الإسلام ، و قد أمد الله تعالى العقل بنور الإيمان المجمل ، ثم بنور افسلام ، فيكون إدراكه كإدراك الأشياء في الليلة القمراء ، حيث يكون الإدراك هنا إدراك تعينات بنور لكن في ظلمة .

    فالعقل في هذه المرتبة و الذي هو النفس ، لم يخرج بعد من سيطرة ظلمته الأصلية ، هذه الظلمة ، هي السوء المشار إليه على إجمال في قول الله تعالى : إن النفس لأمارة بالسوء . و السوء و الظلمة مشتركان في الأصل الذي هو العدم . و من أثر السوء على النفس ، إعمالها لفكرها في الأمور الدينية بقدر يخرج بها عن حدود الانقياد للوحي ، و ذلك كما فعلت الفرق الكلامية حتى فرقت دينها و كانت شيعا ، و كما فعلت المذاهب التي حاولت بناء عقيدتها على أساس فكري نظري .

    3 . مدركات النفس في هذه المرتبة :

    ا ـ معرفة الله معرفة علمية عن طريق الوحي و ما تضمنه من ذكر أسماء وصفات و أفعال .

    ب ـ تبيّن العلاقة بين العبد و ربه ( العبودية ) .

    ج ـ معرفة الآخرة و منازلها .

    د ـ الاطلاع على أحوال الأمم السابقة مع رسلهم و أنبيائهم ، و الاعتبار بها .

    ه ـ تمييز الأعمال و الأحوال التي ترضي الله تعالى و تقرب إليه ، من تلك التي تسخطه و تبعد عنه .

    و ـ تجديد النظر إلى حياة الإنسان الدنيوية على ضوء الوحي ، مما يعطي هذه الحياة أبعادا أخرى لم تكن مدركة للعقل المجرد .

    4 . آ فات النفس :

    النفس في هذه المرتبة ، سائرة من درجة الأمر بالسوء التي قيل فيها : إن النفس لأمارة بالسوء .إلى درجة اللوم التي قيل فيها : و لا أقسم بالنفس اللوامة . فالسوء الذي ذكرناه سابقا داخل عليها من خلف ، و هو أصلها ؛ و اللوم داخل عليها من أمام ، و هي المرتبة التي تلي هذه ، لكن قبل الشروع في الحديث عنها ، لا بد من الكلام عن بعض آفات النفس و منها :

    ا ـ إعمال الفكر في الأعمال المشروعة و العلوم المكتسبة ، و ذلك بنيتين :

    أولا : بنية الإتقان : فيتكلف الإنسان في هذه الحالة ما لا يكاد يطيق من التدقيق في صور إقامة الأعمال ، قد تصل به على الوسوسة .

    ثانيا : بنية تبين الحقيقة : و هو ما وقع فيه المتكلمون في تعاملهم مع الوحي محاولين في ذلك الوقوع على منطق لهذا الوحي ، يسكن من ثائرة نفوسهم ؛ فنتج عن ذلك :

    نشوء الفرق : و ظهور التفرقة ، بحسب ما توصل إليه كل صنف من الفكر ، هذه التفرقة التي كانت و لا زالت أحد أسباب ضعف الأمة : إذ ما أسهل أن يتسرب التشكيك و الإيهام من فرقة إلى فرقة ، في هذه المرتبة ، حسب قوة الصراع الفكري المحتدم بين هذه و تلك ، مما يؤدي إلى إضعاف الجميع في النهاية .

    فتح باب الضلالات : خصوصا العقدية منها ، و ذلك بسبب تحكيم الفكر على الوحي ، فما وافقه قبل ، و ما غمض عليه تكلف في إثباته ، إن لم يرد بكيفية أو بأخرى ، كالتأويل البعيد الذي يخرج بالألفاظ عن أصلها الموضوعة له ، أو كالجمود على ظاهر اللفظ الذي يخل بالمعنى المقصود للنسق التركيبي الذي يوجد ضمنه اللفظ ؛ و إن كان النوع الأول أخطر .

    و إن كانت الآفة الأولى أدت إلى ضعف الأمة كجسد واحد ، فإن هذه الثانية تؤدي إلى ضعف في الإيمان و نقص في الإسلام ، لما كانت منافية لأصلهما الذي هو التصديق و الانقياد .

    و لا بد هنا أن نلاحظ ما يلي :

    ـــ أن الدين بطبيعته غيب و شهادة ، فالشهادة ما يعلم منه على وجه الإحاطة كالعلم بإقامة الصلاة و شروطها و أركانها مثلا ، و الغيب هو ما لا يحاط به كتأثير الصلاة في نفس الإنسان على وجه ربط السبب بمسببه .

    ـــ أن الإدراكات متفاوتة بين الأشخاص : فما يدركه هذا قد لا يدركه ذاك ، و ما هو شهادة لهذا قد يكون غيبا لذاك ، خذ على ذلك مثلا عاميا مع فقيه ، يتبين لك الأمر .

    إذا تقرر ما قلناه ، علمنا أنه لا منجى للإنسان إلا الانقياد للوحي انقياد المؤمنين حقا ، لا انقياد المؤمنين المقيدين بالنظر ، لأن هذا النوع الأخير في الحقيقة ، إنما هو منقاد لنفسه لا لربه ، و حكمه النهائي على الشيء له لا لربه ، و هو سوء أدب كبير مع الله تعالى ، إن لم يكن أكثر من ذلك .

    ظن بلوغ النهاية : و ذلك كما يعتقد أغلب العامة إذا أدوا الأركان الخمسة لمرتبة الإسلام ، فيعتقدون أن دينهم(تدينهم) قد كمل ، و هو خلاف الحق مدلول حيث عمر رضي الله عنه الذي أوردناه سابقا ؛ و هم إن سلّموا بالزيادة و الترقي ، فإنما يحصرونهما في جنس الأعمال التي هي الأركان ، أو في العلم بالأحكام و إتقان أبوابه و فنونه . فالتفاوت بين الناس عندهم ، إنما هو بحسب الإقلال أو الإكثار من ذلك كله .

    وقد أثرت هذه الآفة في الأمة الجمود ، حتى أصبح الدين أحيانا صورة لا روح لها ، و صارت الأعمال المشروعة هدفا في ذاتها ، بعد أن كانت وسيلة ، و صار هم أكثر الناس ، الإتيان بها بشكل شبه آلي ، للتفرغ بعد ذلك للدنيا و الانغماس في حلالها و حرامها .

    الاعتداد بالعمل و المن به : يحدث هذا للمرء عندما يقوم بأداء الأركان ، و أحيانا بأداء القليل منها مع كثرة المخالفة ، فيداخله إحساس بأنه قد أدى ما عليه ، و أنه أفضل من كثير من خلق الله ، و أنه داخل في دائرة الصالحين من الأمة ، و أنه يستحق على ذلك العمل الأجر الجزيل عند ربه ؛ و هو ما يدخله في المن على الله . و ما وقع من وقع ، في مثل هذا إلا لظنه أن عمله مخلوق له ، و أن قدرته هي المخرجة لذلك العمل من العدم إلى الوجود . و ربما إن سألته في ذلك يقول : هو بتوفيق الله و فضله ، و لكن ليس كلام اللسان كما استقر في الجنان . و هو ما يفتح عليه باب الرياء أيضا . و لمثل هؤلاء يقول الله تعالى : و الله خلقكم و ما تعملون . و يقول أيضا : يمنون عليك أن أسلموا ، قل لا تمنوا علي إسلامكم ، بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين . أي هداكم للإيمان الذي هو أصل الإسلام ، هذا إن كنتم صادقين في إسلامكم .

    فالمنة لله لا لغيره بأي اعتبار شئت .

    حب الدنيا : و سبب ذلك قرب إدراك الحياة الدنيا من النفس ، و بعد إدراك الآخرة عنها . و رغم انتشار هذه الآفة و عمومها العالم (في العرف) والجاهل ، فقد أغفل الناس ذكرها و التحذير منها . و إن حب الدنيا يقيد القلب إلى السفل و يعوقه عن طلبمعالي الأمور ، بل و يتسبب له في معصية الله و مخالفة أمره من أجل قضاء مآرب زائلة . و هذا ما يناقض الإيمان بالآخرة و العمل لها ، اللذين بهما نجاة النفس .

    و قد حذر الله عباده من الوقوع في حبال الدنيا بأمثال قوله تعالى :إنما الحياة الدنيا لهو ولعب . فمن صرف عمره و اهتمامه لها ، فهو طفل من حيث الاعتبار العقلي ، إذ لا يشتغل باللهو و اللعب إلا الأطفال . و قال عنها رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم : الدنيا سجن المؤمن و جنة الكافر .< أخرجه مسلم > و قال عنها أيضا : الدنيا ملعونة ، ملعون ما فيها إلا ما كان لله منها .< أخرجه الترمذي و حسنه>

    5 . رجال هذه المرتبة :

    رجال هذه المرتبة هم عموم المسلمين ، و أئمتها هم الفقهاء ( بالمعنى العام ) العالمون بأحكام الشرع المبيّنون لها .

    6 . الفكر في مرتبة الإسلام :

    حتى لا يقول المغرضون إن الإسلام ضد العقل ، و ما يعنون بالعقل إلا الفكر ، لكنهم لا يميزون بين المعاني ، فسنبين مجال الفكر في هذه المرتبة :

    فإضافة إلى تدبير شؤون الحياة العادية ، و الاشتغال بالعلوم الدنيوية ، اللذين أثبتناهما للعقل المجرد ، فإن للفكر في مرتبة الإسلام مجالا آخر في إطار الدين و هو :

    ا ـ استنباط الأحكام من النصوص الشرعية ، ذلك أن النص قد لا يكون واضح الدلالة بالنسبة لجميع الناس ، فيحتاج إلى إعمال الفكر بوسائله المعهودة المذكورة في الباب الأول ، للتوصل إلى الحكم الشرعي .

    ب ـ تنزيل الأحكام المتبيَّنة على الوقائع المختلفة باختلاف الزمان و المكان و الحال ، مما يجعل الأحكام بحاجة إلى متابعة دائمة ، و إعمال الفكر باعتبار كل المتغيرات : و هو ما اختصت به المذاهب الفقهية المعروفة عبر الأزمان ، مع بعض القصور في عصرنا الحالي .

    ج ـ التصدي للأفكار الفاسدة الواردة على الأمة الإسلامية من فبل الأمم الأخرى ، و العقائد الدخيلةالتي قد تشكل خطرا على سلامة الأمة ، كما يفعل ذلك كثير من المفكرين في عصرنا ، عصر العولمة ، أعانهم الله على ذلك .

    د ـ العمل على تنظيم الأمة سياسيا و اقتصاديا و اجتماعيا ، بشكل متوافق مع الإسلام عقيدة و عملا ، و هو ما نحتاج إليه كثيرا في عصرنا ، الذي ورثنا فيه من المستعمر نظما تعارض الإسلام صراحة ، مما يجعل المسلم يعيش حالة ازدواج موهنة ، بحيث إنه لا يصل إلى نتائج تذكر في حياته ، برغم بذل المجهود .

    الفصل الثالث : إيمان القلب : ( و من يومن بالله يهد قلبه )

    إذا كانت المرتبة الأولى للعقل هي مرتبة النفس ، فإن هذه المرتبة مرتبة القلب ، كما أن مرتبة الإيمان هي قلب الدين : فهي بين إسلام و إحسان ، بل هي عينهما لكن باعتبارين مختلفين ؛ ثم إن هذا الإيمان الذي نحن بصدده ، هو تفصيل الإيمان المجمل الذي ذكرناه سابقا ، و الذي هو عمدة مرتبة الإسلام .

    و هذا التفصيل تجسيد لقرب العبد من ربه ، إذ البعد يعطي الإجمال و القرب يعطي التفصيل . و هذا الإيمان هو الذي ورد ذكره في قول الله تعالى : قالت الأعراب آمنا ، قل لم تومنوا ، و لكن قولوا أسلمنا ، و لما يدخل الإيمان في قلوبكم . و "لما" التي تفيد الترقب ، جعلتنا ندرك أن هذا الإيمان بعد الإسلام ، و هو على الحقيقة تحقيق له و ترسيخ و تصحيح .

    و بالرجوع إلى حديث عمر رضي الله عنه ، الذي أوردناه في أول الباب ، يتضح أن لمرتبة الإيمان هذه ستة أركان هي أصل شعب الإيمان التي تتفرع في الدين جميعه عبر مراتبه الثلاث ، و التي أشار إليها قول رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم : الإيمان بضع و سبعون شعبة ، أفضلها قول لا إله إلا الله و أدناها إماطة الأذى من الطريق . < أخرجه الشيخان >

    1 . العقل في هذه المرتبة :

    بعد أن كان للعقل بابان في مرتبة التجرد ، و هما الحواس و الفكر ، انفتح له في مرتبة الإسلام باب العمل الشرعي الذي يثمر له نورا يزيد في انفساحه كما رأينا ، صار العقل الآن بموجب مرتبة الإيمان مقبلا على أفق جديد ، سيزيده قوة في إدراكه الأول ، و إدراكا جديدا هو : الوجدان .

    و الوجدان : إدراك حسي ، لكن لا بالحواس الظاهرة التي تجاوزناها في مرتبة العقل المجرد ، بل بحواس باطنة للقلب ، كانت شبه معطلة إلى حد الآن .

    و قد نبه القرآن إلى هذه الحواس في مواطن كثيرة منها قوله تعالى : فإنها لا تعمى الأبصار ، و لكن تعمى القلوب التي في الصدور . فانظر كيف جعل العمى الحقيقي الذي هو عدم الإدراك للقلوب و ليس للأبصار الظاهرة ، و بهذا فإن الأبصار إن عميت و لم تعم القلوب ، فإن ذلك لن يحجب الإنسان عن إدراك الحقيقة ، بعكس ما إذا عميت القلوب و صحت الأبصار . و منها قوله تعالى : أولئك الذين طبع الله على قلوبهم و سمعهم و أبصارهم ، و أولئك هم الغافلون .هذا رغم سلا مة حواسهم الظاهرة كما أسلفنا . و منها قوله تعالى أيضا : و منهم من يستمعون إليك (بآذانهم ) أفأنت تسمع الصم ( من حيث قلوبهم ) و لو كانوا لا يعقلون ؟ و منهم من ينظر إليك ( بأعينهم ) أفأنت تهدي العمي ( من حيث الباطن ) و لو كانوا لا يبصرون ( حقيقة ) ؟

    و قد ذكر هذا الوجدان رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم في قوله : ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان : أن يكون الله و رسوله أحب إليه مما سواهما ، و أن يحب المرء لا يحبه إلا لله ، و أن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار . < أخرجه البخاري >

    بقي أن نقول ، إن هذه الحواس الباطنة التي يتحقق بها الوجد ( أو الوجدان أو الوجود ) ، بالنسبة إلى الحواس الظاهرة ، هي لها كالروح للجسد أو المعنى للفظ ، كما سنبين فيما يلي :

    2 . الحواس الظاهرة و الباطنة :

    إذا تأملنا الحواس الظاهرة ، وجدناها مختلفة المدارك ، على ترتيب معين في قرب هذا الإدراك من العقل : فالطفل أول ما يستعمل من حواسه ، حاسة اللمس ، و هي أعم الحواس بعموم الجلد الجسم كله ، و أكثرها مباشرة للمحيط الذي يحيط بالإنسان ؛ ثم تليها حاسة الذوق ، و هي أخص منها ، و إن كانت تعتمد على المباشرة أيضا ؛ ثم تليها بعد ذلك حاسة الشم ، و هي غير مباشرة ، أو قل مباشرة لكن على لطافة في هذه المباشرة : لأنها تدرك الغازات الناتجة عن الأجسام ( و هي جزء متحول منها ) لا الأجسام ذاتها ؛ ثم تلي حاسة الشم حاسة السمع و هي ألطف منها في الإدراك ( لأنها تدرك الأصوات الناتجة عن تأثير الأجسام في الهواء ، لا الأجسام ذاتها ) ؛ ثم تليها حاسة البصر ، و هي ألطف الجميع مع عدم مباشرتها للأجسام ، إلا ما ينعكس من الضوء المسلط عليها إلى العين .

    فانظر التدرج الحاصل في إدراك المحيط عبر الحواس من الكثافة إلى اللطافة .

    و إذا رجعنا إلى الحواس الباطنة ، وجدنا الوجد العام هو أعم هذه الحواس ، ثم يليه الذوق الخاص ، ثم يليه الشعور ، ثم يليه الفهم ، ثم تليه الفراسة .

    3 . أركان الإيمان :

    ا ـ الإيمان بالله :

    هذا الإيمان هو إدراك انفعالي لصفة الوجود خاصة ، و لباقي الصفات بالتبعية ، و هو إن قورن بالإيمان المجمل ، كان هذا الثاني

    منه ، كالقول من الفعل لما بينهما من فارق .

    ينتج هذا الإدراك الجديد للمرء انجذابا إلى الجناب الأقدس ، يخلخله عن الاعتماد على نفسه ، و يورثه حال التوكل على ربه في جميع أموره ، لما يشهده من استتباع أحكام الربوبية لأحكام العبودية ، و هو ما يناقض الاستقلالية التي كان يظنها لنفسه فيما سبق من المراتب .

    و قد ذكر القرآن هذه الحال في قوله تعالى : و على الله فليتوكل المومنون . أي
    Admin
    Admin
    Admin


    المساهمات : 1949
    تاريخ التسجيل : 10/01/2008

    كتاب يقرب التصوف Empty رد: كتاب يقرب التصوف

    مُساهمة  Admin الأربعاء مايو 16, 2012 1:58 am

    الفصل الرابع : إحسان الروح : ( إن الله مع الذين اتقوا و الذين هم محسنون )

    الإحسان لغة ، هو الإتقان و التجويد ، فكان بهذا المعنى إحسانا للإيمان و إتقانا له و تكميلا .

    و بالرجوع إلى حدسث عمر رضي الله عنه ، هو : أن تعبد الله كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه ، فإنه يراك .فتبين لمرتبة الإحسان ركنان :

    1 . ركنا الإحسان :

    ا ـ فإن لم تكن تراه ، فإنه يراك : هذا هو الركن الأول و إن تأخر في اللفظ ، لكن الأسلوب الذي ورد به الحديث ، يوحي بالانتقال من الأعلى إلى الأدنى ، باستعمال فإن لم تكن التي تفيد التعذر . و هذا الركن بين نفي هو : فإن لم تكن تراه ، و إثبات هو : فإنه يراك . فنفيه مقابل لمرتبة الإيمان ، و إثباته مقابل لمرتبة العيان ، فكان بذلك برزخا بين المرتبتين : مرتبة الإيمان و مرتبة الشهود و العيان .

    و حال هذا الركن هو : المراقبة .

    و المراقب بين إيمان و عيان : فلا هو مؤمن بغيب و حسب، و لا هو مشاهد . و المراقبة هي عكوف قلب العبد عند باب ربه ، لا يبرحه ، مع ما يتبع ذلك من أدب و تأهب للاستجابة . و من داوم قرع الباب ، يوشك أن يفتح له ، كما قيل . و هذه المراقبة التي تحدثنا عنها تفيد القلب الشعور و الفهم الذي هو روح السمع ، أو قل هي السمع الحقيقي . و هي إن استحكمت في القلب و تمكنت منه ، كانت سببا ، إن شاء الله تعالى ، للعبور إلى الركن الثاني الذي هو :

    ب ـ أن تعبد الله كأنك تراه :

    و هو المشاهدة و العيان ، فقد ورد في الحديث الشريف : ليس الخبر كالمعاينة . < رواه أحمد و الطبراني و الحاكم و ابن حبان >

    و المشاهدة للبصيرة ( حاسة البصر الباطنة ) التي هي روح البصر الظاهر ، لكن لا على ترتيب عملية الإبصار العادية أثناء تعاملها مع المبصرات ؛ فإن الله تعالى عزيز ، إذا شاء أن يتجلى لعبد من عباده ، كان ذلك منه لا من العبد ، و هو معنى قوله تعالى : لا تدركه الأبصار ، و هو يدرك الأبصار . فكما أنه سبحانه لا يدركه فكر ، كما رأينا سابقا و في محله، كذلك لا تدركه حاسة من الحواس، باطنة أو ظاهرة ، بل لا يدركه مخلوق من المخلوقات على التحقيق .

    و لا بد أن نلاحظ أسلوب التشبيه الذي و رد في اللفظ النبوي باستعمال الكاف ، بخلاف الرؤية الأخروية التي ورد ذكرها بغير هذا الأسلوب . فنقول : إن الله تعالى لا يتقيد بصورة ، و بما أن الدنيا محل التكليف ، و التكليف ابتلاء ، نتيجته إما موافقة للحق أو مخالفة ، و خوفا من رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم ، الرؤوف الرحيم ، على أمته ، و مبالغة في النصيحة لها ، أورد هنا التشبيه بالرؤية ( و هو ما عبر عنه أتباعه من أهل الحق بالمشاهدة ، أدبا منهم معه صلى الله عليه و آله و سلم ، و علما بحقيقة الأمر ) ، أورد هذا التشبيه حتى لا تقيد أمته الله تعالى بصورة معينة ، كما فعلت بعض الأمم فضلت بذلك . فإن قلت فما باله صلى الله عليه و آله و سلم لم ينبه على ذلك في رؤية العباد ربهم في الاخرة ؟ قلنا :

    أولا : لأن الآخرة ليست محل تكليف ، فهو لا يخاف على أمته الخطأ هناك .

    ثانيا : إن نشأة الآخرة تعطي الإنسان ما لا تعطيه نشأة الدنيا .

    و هذا الركن هو إثبات محض و وجود خالص ، ذلك أن هذه المرتبة للروح ، و الروح قد قال فيه الله سبحانه و تعالى : و نفخت فيه من روحي .فنسبه إليه . و هو سبحانه الوجود الحق ، فكان ما ينسب إليه وجودا لا يخالطه العدم بحال من الأحوال . و في هذه المرتبة انتفت عن العقل ظلمته الأصلية بطلوع شمس نوره الوجودية ، فانكشف له ما لا يحيط به العد ، و ما تقصر عنه العبارة ، فتحقق بدرجة المحبوبية التي ورد فيها : لا يزال يتقرب العبد إلي بالنوافل حتى أحبه ، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، و بصره الذي يبصربه ، و لسانه الذي ينطق به ، و يده التي يبطش بها . < حيث قدسي أخرجه البخاري و أحمد > و كان العبد هنا ممن علمه الله من لدنه علما كما قال تعالى : و علمناه من لدنا علما . و هو علم خاص منه سبحانه و تعالى إلى غبده لا يطلع عليه مخلوق من المخلوقات السماوية أو الأرضية ، و هو معصوم من الخطإ ، على عكس ما تظنه العامة ، و مرجع ظنهم جهلهم بهذه المرتبة ، لكن هذا العلم يبقى محلا للتفاوت بين رجال هذه المرتبة ، فنجد منهم العالم و العليم ، فهذا حظهم من الخطإ إن كان هناك خطأ ؛ و في قصة سيدناموسى عليه السلام مع الخضر دليل على ما قلناه لمن تسلح بالإنصاف .

    و لا يقولن أحد أن ذلك خاص بالخضر وحده ، لأن لله رجالا في كل زمان على شاكلة الخضر ، من هذا الوجه ، و من سأل أهل الذكر علم ما لم يكن يعلم .

    2 . العقل في هذه المرتبة :

    يقول الله تعالى : إن الله يأمر بالعدل و الإحسان .

    فالعدل هنا ، هو استواء بين طرفين ، و هو للقلب الذي هو بين نور و ظلمة .

    و الإحسان هو لغلبة النور و انفراده ، فكان العقل هنا نورا محضا ، و هو طلوع الشمس و استواؤها في نهار الروح ، بعد ليل النفس و سحر القلب اللذين ذكرناهما سابقا .

    و لكي تعلم أن الوجود الإنساني بين نور و ظلمة ، يختلف حكمه باختلاف غلبة أحدهما عليه أو استوائهما ، انظر إلى قول الله تعالى : و الشمس و ضحاهاو هي نور في ظهور و القمر إذا تلاها و هو نور في بطون و النهار إذا جلاها و هو أوان الظهور و الليل إذا يغشاها و هو أوان البطون و السماء و ما بناها للترقي و الأرض و ما طحاها للنزول و نفس و ما سواها للتكليف فألهمها فجورها و تقواها للتمييز قد أفلح من زكاها للسعادة في المآل و قد خاب من دساها للشقاء في المآل .

    جعلنا الله و إياك من أهل النور المحض .

    3 . أركان الإسلام في هذه المرتبة :

    تبلغ أركان الإسلام عمقا في هذه المرتبة لم تبلغه في سابقتيها ، فهي :

    ـــ شهادة : عن شهود .

    ـــ صلاة : بقرة عين و ورود .

    ـــ زكاة : للأسرار .

    ـــ صوم : عن الأغيار .

    ـــ حج : للحضرة مع الأوقات .

    4 . آفات هذه المرتبة :

    لهذه المرتبة آفتان هما :

    ـــ الغفلة العارضة ، لا المستحكمة .

    ـــ الاستغناء بالله ، الذي لا يصح .

    5 . رجال هذه المرتبة :

    رجال هذه المرتبة هم أهل الله و خاصته ، الذين ليس لهم نظر إلا إليه ، و لا مقصد إلا إياه ، و الذين علموا منهم سبحانه ما لم يعلمه غيرهم ؛ و أئمتها هم الأكابر من أولياء الله الوارثون لعلم النبوة ، القائمون بالله له ، الدالون به عليه ، المسلمون وجوههم له إلى الأبد ، الساجدون له في حضرته من غير رفع ، الذين خرجوا من كل قيد في عين القيد ، أحباء الله الذين من نظر إليهم ذكر الله .

    و ليس وراء هذه المرتبة مرتبة تطلب ، إلا الزيادة منها ، أي الزيادة من العلم بالله سبحانه و تعالى ، لقوله سبحانه لنبيه صلى الله عليه و آله و سلم : و قل رب زدني علما . فلم يأمره بالاستزادة من شيء إلا من العلم ، فلا نهاية للعلم بالله أبدا ، دنيا و أخرى ، لأن الله تعالى لا نهاية له : و ما أوتيتم من العلم إلا قليلا .

    الفصل الخامس : الترقي في المراتب :

    1 . العقل و الدين :

    إذا نظرنا إلى العلاقة بين الدين و العقل ، وجدنا أن كلا منهما ، يكمل صاحبه : فالعقل بدون دين قاصر ، و الدين بدون عقل باطل ، لذلك كان العقل شرطا كما هو معلوم في التكليف ، كما أن الدين شرط للعقل في التعريف .

    2 . عبودية الإنسان :

    قد يتوهم البعض أننا عندما تكلمنا في الإحسان ، كنا نقصد رفع العبودية عن الإنسان ، بما أشرنا إليه من النور المحض و الوجود التام ، و هو غير الحقيقة التي نرمي إليها : ذلك أن العبودية مقابل الربوبية ، و أحكامها مقابل أحكامها ، فلا سبيل إلى رفعها البتة ، و إلا لما تميزت المرتبتان ، مرتبة العبودية و مرتبة الربوبية . و كيف يرجى رفعها و هي زينة الإنسان ؟ سبحان الذي أسرى بعبده ...

    غير أن للعبودية مراتب بموازاة المراتب التي مررنا بها ، نذكرها على سبيل الاختصار :

    ا ـ في مرتبة العقل المجرد : تكون العبودية قهرية ، إذ لا يخرج عن العبودية لله كافر و لا مؤمن ، إلا أن هذه العبودية لا تورث الكافر سعادة في المآل .

    ب ـ في مرتبة الإسلام : تكون العبودية عبودية ظاهر الإنسان .

    ج ـ في مرتبة الإيمان : تكون العبودية عبودية باطن الإنسان .

    د ـ في مرتبة الإحسان : تكون العبودية عبودية تحقق ، و هي لكلية الإنسان ، و هي أيضا ما سماه البعض عبودة .

    3 . العلم :

    العلم هو إدراك الأشياء ( المعلومات) على ما هي عليه في الحقيقة ، و هو صفة إلهية يفيض منها على من يشاء من عباده بما يشاء : و علمك ما لم تكن تعلم ، و كان فضل الله عليك عظيما .

    و الأصل في العبد الجهل المحض ، لأنه عدم العلم ، فهو مناسب لأصله ، و إلى هذا المعنى الإشارة بقول الله تعالى : و الله يعلم و أنتم لا تعلمون : الله يعلم لأن العلم صفة وجود ، و أنتم لا تعلمون لأنكم عدم على التحقيق . هذا بالأصالة ، و لكن لما أراد الله تعالى أن يظهر جوده و فضله على الإنسان علمه : علم الإنسان ما لم يعلم . و إلى علم الإنسان ، الإشارة بقوله سبحانه : و ما أوتيتم من العلم إلا قليلا : أولا : العلم أوتيه و ليس له ، ثانيا : مهما بلغ هذا العلم ، و إن كان الإنسان أعلم بني جنسه ، فلن يوصف إلا بالقلة ، ذلك أننا لو نسبناه إلى العلم الإلهي غير المتناهي ، لكانت هذه النسبة نسبة محدود إلى غير محدود ، و هي كما يعبر عن ذلك الرياضيون : مقاربة للصفر ، أو غير معتبرة ، و هو معنى القلة المذكورة في الآية .

    إذا علم الإنسان هذا ، فإنه لن يغتر بعلمه أبدا، و سوف يكون جهله الأصلي هو المشهود له ، و ذلك ما يحقق عبوديته و يرسخ قدمه فيها .

    مراتب العلم حسب مراتب العقل :إذا كان العقل بمختلف مراتبه و تسمياته هو محل العلم ، فلا يخفى ما بينهما من تلازم صعودا و نزولا :

    المرتبة الأولى (العقل المجرد) : العلوم التي يمكن للعقل اكتسابها ، هي العلوم المتعلقة بظاهر الحياة الدنيا ، سواء كانت تجريبية أو نظرية بحتة أو مهارية .

    المرتبة الثانية ( الإسلام): إلى جانب العلوم المتعلقة بالمرتبة الأولى ، يمكن للعقل اكتساب ما يسمى بالعلوم السمعية أو النقلية التي يأخذها عن الرسل عليهم الصلاة و السلام .

    المرتبة الثالثة (الإيمان) : إلى جانب العلوم التي اكتسبها العقل في المرتبتين الأوليين ، يكون القلب مؤهلا ، إن شاء الله تعالى ، لقبول علوم وهبية ليس له فيها تعمل ، بل له فيها تهيؤ و قبول فقط ، و هي ما يسمى علوم الكشف ، التي هي نتائج الإيمان العلمية . يجدها أصحابها في قلوبهم واضحة بينة ، فتقبلها عقولهم بمنطق هذه المرتبة ، لكن العقول التي دون هذه المرتبة ، تردها غالبا ، و تنكرها على أصحابها أشد الإنكار .

    المرتبة الرابعة ( الإحسان ):إلى جانب كل العلوم السابقة ، يختص العقل هنا (الروح) بالعلم اللدني الذي سبق أن تكلمنا عنه بإيجاز .

    فظهر مما سبق أن العلم علمان : علم كسبي و علم وهبي . و العلم الكسبي نوعان :

    ـــ دنيوي : و هي العلوم التي لا تتجاوز الدنيا في مراميها ، سواء كانت دنيوية بالأصل أم أخروية .

    ـــ و أخروي : و هي العلوم الشرعية بأنواعها ، بالأصالة ، و العلوم الدنيوية التي تراد بها الآخرة بالنية و الاعتبار .

    و العلم الوهبي أيضا نوعان : كشفي و لدني .

    و قد جاء في قوله صلى الله عليه و آله و سلم : العلم علمان : علم على اللسان ، فذلك حجة الله تعالى على خلقه ، و علم في القلب ، فذلك العلم النافع . < أخرجه الترمذي بإسناد صحيح > نفهم منه عادة ، أن العلم المستقر في القلب المتيقن ، انفع من العلم الذي يتكلم به المرء دون أن يكون له أصل في باطنه . و هذا معنى من معاني الحديث يحمل عليه ، أما المعنى الذي نريده نحن هنا فهو :

    إن علم اللسان هو العلم الكسبي الذي ينتقل من واحد إلى آخر و يلقن بواسطة اللسان بالدرجة الأولى ، أو ما ناب عنه كالكتابة بالدرجة الثانية . و هذه العلوم كما قلنا سابقا عقلية و نقلية ، و هي حجة الله على الخلق . و الحجة لا تكون إلا فيما يحتمل النفي و الإثبات ، و هي بالتالي ، إما لهم أو عليهم : فالعلوم العقلية حجة للإنسان ، إن هي أوصلته إلى باب الإيمان ، و إن استعملها للخير ؛ و هي حجة عليه إن أدت به إلى عكس ذلك .

    فانظر ما أعدل الله ، كيف لا يأخذ الإنسان إلا بنفسه ! كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا .

    و العلوم النقلية التي يأخذها الخلق عن الرسل عليهم الصلاة و السلام ، حجة لهم إن هم حكموها في نفوسهم و عملوا بمقتضاها ، و هي عليهم إن هم أهملوها و خالفوها و اتبعوا أهواءهم دونها .

    أما العلم الثاني الذي هو في القلب : فهو العلم الوهبي الذي ينبع من القلب و لا يأتي من الخارج ، و هذا الصنف من العلوم جعله صلى الله عليه و آله و سلم نفعا محضا لا يقبل احتمال النقيض ، و ذلك لشرف نسبته و علو مرتبته عند الله تعالى .

    و ترتيب العلوم لا بد أن يتبينه العقل إن كان يريد السلوك إلى الحق ، و الترقي في معارج الكمال ، و إلا فسيكون طعمة سهلة للشياطين الذين يحترفون التلبيس و الإيهام . و ما أشد تعرض العقول غير المؤيدة من الله إلى ذلك ، خصوصا فيما يتعلق بالفكر .

    4 . تحقيق الترقي :

    إذا عرفنا مراتب العقل و منازله ، وجب علينا تبيين الشروط التي يتحقق بها الترقي من مرتبة إلى مرتبة ، و ذلك كما يأتي :

    ا ــ اتخاذ الإسلام دينا : إن من المغالطات التي بدأت تتسرب إلى الأمة ، كون الإسلام دينا من ضمن عدة أديان ، تتشابه في أكثر الوجوه و تختلف عن بعضها في جزئيات منها فقط ؛ و كأن الإنسان له أن يختار من بينها ما يوافق ميوله و نزعاته ، كما يفعل عند اختيار الألبسة أو المأكولات من السوق . فنقول : إن العقل مخلوق لله تعالى ، أمره بيده كما هو أمر كل شيء، و ترقي العقل إنما يكون بإذن من الله ، حتى لا يعتقد العقل أنه الرب . و يكون هذا الترقي عبر سبيل شرعها الله تعالى و بينها ، و بأسباب حددها ، يتضح من خلالها كما قلنا فقر العقل الأصلي إلى ربه . قال الله تعالى : و من يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه . يتبين من هذا أن الإنسان ملزم باتباع الدين الحق حتى يفتح له باب الترقي ، و إلا فسيكون كمن يغربل الماء : في تعب دون نتيجة . فإن قيل إن الأديان السماوية هي من عند الله ، فهي أيضا سبيل للترقي ، قلنا : ليس للعقل (كعبد) أن يحدد السبيل ، و إنما ذلك لربه ، و لربه أن يحدث في هذه السبيل ما شاء من التغيير (النسخ و التبديل ) لملكه الأمر و هيمنته عليه لا يسأل عما يفعل و هم يسألون . و جدوى دين من الأديان و صحته ، ليست للدين ذاتية ، بل هي بإذن من الله ، فإن رفع الله إذنه من دين (شريعة ) ما ، لم يعد ذلك الدين سبيلا موصلة إلى الله . كل هذا ليعلم العقل أنه ليس له من الأمر شيء ، و ليفتقر كي يعطى .

    فإن قيل : إذن فقد فقد العقل الإنساني هذا الامتحان الذي هو اختلاف التشريع بثبوت و استمرار الدين الخاتم ، قلنا بل هو في أثنائه و طيه : ذلك أن النسخ وارد على هذا الدين (الشريعة) أيضا في بعض جزئياته ، كما أن لله في النهاية أن يقبل أو أن يرد عمل العبد ، لأن الشرع حاكم على العبد لا على الله سبحانه ، و هي مسألة تغيب عن أغلب الناس . فإن قال القائل : كان هذا ممكنا مع الشرائع المنسوخة السابقة , لم يكن من داع إلى نسخ بشريعة خاتمة ، قلنا : ذلك لو كانت الشرائع السابقة كاملة ، أما و هي غير ذلك ، فلا بد من سير الدين نحو درجة الكمال التي بلغها بسيدنا محمد صلى الله عليه و آله و سلم ، كما بينا ذلك فيما سبق .

    فلم يبق إذن امام العقل الإنساني من باب ، إلا باب الإسلام المحمدي ، و أما الأديان الأخرى سواء كانت سماوية أم وضعية فهي باطلة ، على تفاوت بينها : إذ لا يستوي ما وضعه الله مع ما وضعه العبد ، و هو ما بينه الكتاب و السنة في غير ما موضع .

    ب ـ اتخاذ القدوة (الشيخ) : الشيخ رجل خبر طريق الترقي ، و سبق له أن سلكه ، فهو يعلم حق العلم مواطنه و مسالكه ، و يميز آمنه و مهلكه .

    و الشيخ دال على مراتب الترقي بالنيابة عن الرسول صلى الله عليه و آله و سلم ، لا بالأصالة . فهو ملزم إلزاما تاما باتباع الرسول صلى الله عليه و آله و سلم ، في كل شيء . و الشيخ المعتبر هنا ، و الذي نقصده ، هو الشيخ الحي المتواجد في الدار الدنيا إلى جنب السالك ، ذلك حتى تتحقق المباشرة و المعاشرة ، اللتان تثمران للسالك ما لا يثمره غيرهما ؛ لقول رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم : المؤمن مرآة أخيه < > . و فائدة المرآة أنها تبين للإنسان من نفسه ما لا يظهر له بدونها : فيعرف نفسه على التفصيل ، و يميز من نفسه بين اليمين و الشمال ، و الفوق و التحت . و أكمل مرآة على الإطلاق ، مرآة سيدنا محمد صلى الله عليه و آله و سلم ، باعتباره أول المومنين رتبة لا زمنا ، لكن و بما أن هذه المرآة غابت عن شهود السالك الحسي ، أجاز له الشرع أن يعرض نفسه على مرآة جزئية (الشيخ) ، أكمل منه ، يعبف منها ما يساعده على التقدم في السلوك .

    فإن قال قائل : يكفيني الاقتداء برسول الله صلى الله عليه و آله و سلم ، قلنا: بل الاقتداء لا يكون إلا به صلى الله عليه و آله و سلم ، لكن لهذه القدوة فرع في الشيوخ رحمة من الله بالناس الذين :

    ـــ لا يتصلون برسول الله الله صلى الله عليه و آله و سلم ، حتى يكون هو المفتي لهم فيما يعرض لهم في تفاصيل السلوك إفتاء لا عن خبر ، لأن الخبر قد ينزّل على غير وجهه .

    ـــ لم يتخلصوا من سلطان نفوسهم و أهوائهم ، فيلتبس عليهم التوجيه النبوي الخبري ، فيسلكون به غير المسلك الصحيح ، فيضلون على علم .

    فإذا تبينت مرتبة المشيخة للقارئ ، نمر إلى تفصيل مراتبها حسب مراتب الإدراك العقلي التي سبقت :

    مراتب المشيخة :

    أولا : في مرتبة العقل المجرد ، يكون الشيخ من العقلاء النظار ، الذين يعرفون مسالك الفكر ، و يميزون سليمه من سقيمه .

    ثانيا : في مرتبة الإسلام ، من مراتب العقل المعضد ، يكون الشيخ من علماء الشرع ، العالمين بأحكامه ، المبينين لها .

    ثالثا : في مرتبة الإيمان ، يكون الشيخ من فقهاء القلوب ، العالمين بأمراضها و علاجاتها ، المتحققين بما يطلق عليه تصوف الظاهر (أي ظاهر القلب) .

    رابعا : في مرتبة الإحسان ، لا بد للشيخ أن يكون ممن تحقق بربه ، و صار الله سمعه و بصره و لسانه و يده و رجله ، بمقتضى الحديث القدسي الذي مر ذكره . و هذا ما يطلق عليه : تصوف الباطن .

    غير أنه بسبب جهل جل العقول لمراتب العقل على التفصيل ، فإنها قد تقر ببعض أنواع المشيخة دون البعض المتبقي . و ذلك كتسليم العامة بمرتبة المشيخة في العلوم الشرعية ، و إنكارها لها في مجال التربية القلبية ، مع أن سبب إنكارهم لها في الأخيرة ، يسقط إقرارهم بها في الأولى لو تفطنوا . و بيان ذلك أنهم يقولون : إن إثبات مرتبة المشيخة التي يقول بها الصوفية ، هو إثبات للواسطة بين العبد و ربه ، و هو قدح في التوحيد عندخم . و ردنا عليهم ، هو أن إثبات الواسطة في أخذ أحكام الدين عن علماء الشرع ، هو أيضا إثبات للواسطة بين العبد و ربه في هذه المرتبة ، ذلك أن التشريع و التبيين معا ، لله و رسوله ، و ما قام به علماء الشرع من تبيين ، إنما هو بإذن من الله و رسوله لا من أنفسهم ، فظهر أن الواسطة إن كانت بالإذن ، لم يلزم من الاقتداء بها خلل في التوحيد ، كما يزعم ذلك بعض من علموا التوحيد العقلي النظري ، و غاب عن عقولهم التوحيد الشرعي ، كما سنبين ذلك إن شاء الله تعالى خلال الباب الثالث من هذا الكتاب .

    ج ـ الزاد :

    لا بد للقلب السالك في طريق الله تعالى التي هي الدين ، من زاد يتقوى به بعد الله على مشاق السفر ، و الانتقال من مرحلة إلى مرحلة ، و من مرتبة إلى مرتبة . و ما الزاد الذي يحتاج غليه ، إلا التقوى التي قال الله تعالى فيها : و تزودوا ، فإن خير الزاد التقوى ، و يأتي في المرتبة الأولى منها : أداء الفرائض ، ثم بعد ذلك الإكثار من النوافل . و مركز هذه الأعمال ذكر الله تعالى الذي جعله روحا لها كلها . فقال فيه مثلا : و أقم الصلاة لذكري . و قال فيه رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم : ما عمل ابن آدم عملا أنجى له من عذاب الله من ذكر الله . قالوا : و لا الجهاد في سبيل الله ؟ قال : و لا الجهاد في سبيل الله ، إلا أن يضرب بسيفه حتى ينقطع . ثلاث مرات . < أخرجه الطبراني في الكبير و ابن أبي شيبة في مصنفه و رجاله رجال الصحيح > و في هذا الحديث و غيره ما يوحي بأن الذكر روح الأعمال كما قلنا . و لا تستقيم هذه الأعمال إلا به ، و هي له كالأواني و الظروف . لكن من الذكر ما هو تلاوة على الخصوص ، أو ترديد صيغ معينة بكيفية معينة . و المعنيان المذكوران غير متناقضين ، ذلك أن الذكر يبدأعادة بالظاهر ، و أخص عضو به في الظاهر اللسان ، و هو المرتبة الأولى منه ، و هي التي تناسب مرتبة الإسلام . ثم ينتقل العبد إلى ذكر القلب : و هو حصول معنى الذكر له ، و هي المرتبة الثانية الموازية لمرتبة الإيمان . ثم ينتقل إلى مرتبة ذكر الروح أو السر ، و هي المرتبة الثالثة الموازية لمرتبة الإحسان .

    5 . خلاصة :

    لقد من الله على العقل الإنساني بأن أخذ بيده و أخرجه من ظلمات نفسه إلى نور ربه ، و لولا هدايته سبحانه و تعالى ما اهتدى أحد من عباده إليه : الحمد لله الذي هدانا لهذا و ما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله . فالباب مفتوح لمن شاء أن يحقق درجة إنسانيته ، و يرقى عن حيوانيته التي تهوي به أسفل سافلين : إن هذه تذكرة ، فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا ، و ما تشاؤون إلا أن يشاء الله ، إن الله كان عليما حكيما ، يدخل من يشاء في رحمته ، و الظالمين أعد لهم عذابا أليما .


    الباب الثالث

    مثبطات العقل لدى الأمة

    الفصل الأول : المثبطات :

    1 . الحالة العامة :

    إن أمة الإسلام قد تعرضت لعوامل عديدة ، أثرت فيها ، و جعلتها تضعف و تقعد عن الأخذ بأسباب قوتها التي بينها الله و رسوله صلى الله عليه و آله و سلم . و من هذه العوامل :

    ا ـ الفتن : هذه الفتن التي بدأت الأمة تقع تحت وطأتها بُعيد عصر النبوة مباشرة . و صارت تلك الفتن تقوى و تقوى إلى أن بلغت حدا عصف بإيمان كثير من أبناء المسلمين . و نرجع أصول هذه الفتن إلى :

    ـــ ميل القلوب إلى الدنيا ، و هو ما يحجبها عن الآخرة ، و ما يوصل إليها من صالح الأحوال و الأعمال .

    ـــ ظهور التيارات السياسية الرامية إلى التحكم في المسلمين بحق أو بغير حق .

    ـــ تعرض الأمة للاستعمار من قبل الكفار ، الذين خلفوا وراءهم بصمات في وجدان المة لا تتماشى مع الأصول الإسلامية ، مما أوجد انفصاما لديها أقعدها عن الحركة ، أو على الأقل ، قلل من قدرتها عليها كثيرا .

    ب ـ طول العهد بالنبوة : مع مرور السنين ، بدأت الأمة تفقد اتصالها بمصادر دينها على الوجه الذي ينبغي أن يكون عليه هذا الاتصال ن الذي يحفظ لها استمرارية استمدادها من نور النبوة ، و يكفل لها منعة ضد تشويش المغرضين . و بدل ذلك ، طغى عليها التعامل التاريخي مع الدين ، مما جعل هذا الدين تراثا تاريخيا ، يحافظ عليه المسلمون حفاظا يوازي أو يكاد ، حفاظ كل أمة على مقدساتها الموروثة عن سلفها .

    و لم يسلم من هذه الحالة إلا قلة من أبناء الأمة الإسلامية ، ظلت على العهود الأول، و لم تتأثر بمتغيرات الزمان أو المكان أو العوامل الداخلية أو الخارجية ، عناية من الله بها ، و إبقاء منه تعالى لهذا الدين على حال طراوته و جدته . و كأن الزمان غير موجود ، أو كأن هؤلاء خارج الزمن .

    إلى هذه الطائفة يشير رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم بفوله : لن تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق ، لا يضرهم من خالفهم ، حتى يأتي أمر الله . < أخرجه الشيخان >

    وبسبب انحجاب أغلبية الأمة عن الأخذ من مصدريها الأساسين ( الكتاب و السنة ) ، الأخذ الصحيح ، رغم تداولهما بكيفية لم تكن للأولين ، ظهرت في المة الانحرافات التي أصابت سابقاتها من الأمم ، بعد انتقال رسلهم عليهم الصلاة و السلام . و من ذلك :

    ـــ التمسك بظاهر الدين و رسومه دون روحه و لبه ، و التعصب لهذا الظاهر إلى حد ظهور الفرقة في الأمة الواحدة .

    ـــ طلب العلوم الدينية لأغراض دنيوية ، مما أفقدها مهمتها الأصلية التي هي الدلالة على طريق الحق

    ـــ اتخاذ الدين نفسه مطية إلى الدنيا بعد أن كان وسيلة للتقرب إلى الله و الفوز في الآخرة .

    ـــ اتخاذ النفوس الضعيفة حملة الهلم الغافلين سندا و حجة للانغماس في ملذات الدنيا ، و أحيانا للانحراف عن الحق ، ظنا منهم أن ذلك ينفعهم عند الله يوم الحساب .

    ـــ الإنكار على الطائفة المتمسكة بالحق ، حتى تصفو الحال لطالبي الدنيا و أعراضها الزائلة .

    2 . المثبطات :

    ا ـ السياسة : لقد أصابت الأمة عدوى السياسة بالمعنى الاصطلاحي الحالي ، و هو تصور للحكم يعمل على تحقيقه وفق استراتيجيا معيتة يحددها الإطار المنظم ، سواء كان حزبا ذا خلفية إديولوجية أو غيره . و نقول إن هذا النوع من السياسة عدوى ، لأن السياسة التي تعرفها الأمة في الصل ، هي تدبير الشؤون العامة للمجتمع المسلم وفق ما أنزل الله ، لا يترك فيه للإنسان مجال للاجتهاد ، إلا فيما يتعلق بكيفية تحقيق هذا الهدف ، حسب المتغيرات أو ترتيب الأولويات حسب المستجدات . لكن السياسة الوافدة أو المخلفة من قبل المستعمر ، جعلت كثيرا من أبناء الأمة ينساقون وراء إديولوجيات (مذاهب فكرية) ذات أصل كافر غالبا ، و هو ما جعل هؤلاء يصطدمون بالدين كثيرا ، إما كعقيدة أو كتشريع ، أدى بهم أحيانا إلى الانتصار لحساب المذهب الفكري على حساب الدين ، الذي يجهلونه و ينظرون إليه من خلال نظارات أئمة المذهب الذي يتبعونه ، بدون أي إنصاف علمي ، يجعلهم على الأقل يتبينون ما يخوضون فيه .

    و بعد انهيار قلعة الشيوعية في العالم ، و تطبيل و تزمير الغرب لنموذجه الديموقراطي ذي الأصل الإغريقي ، مال المتسيسون من أبناء الأمة حيث تميل الرياح ، حتى إنهم صاروا يبحثون للإسلام عن نقط التقاء مع الديموقراطيا ، كي ينافح عنها و يدافع باسم الشرع ، هذا الشرع الذي كان يجب أن يكون عندهم أعلى ، و كان يجب أن يُسعى إليه بدل أن يسعى به إلى غيره .

    و الديموقراطيا التي تعني حكم الشعب ، تتنافى مع الإسلام في أصل وضعها ؛ ذلك أنه في الإسلام لا حكم إلا لله : إن الحكم إلا لله .(بجميع معاني الحكم )، فمن احتكم إلى الشعب ، فقد جعل الشعب إلها اعتباريا ، يشرع و يسن ، يثيب و يعاقب .

    يونان معذورون إن هم بحثوا لأنفسهم عن نظام ، تستقيم به أحوالهم ، على قدر ما تيسر لهم . لكن مسلمون و ديموقراطيون ، فهذا ما يحتاج إلى نظر !

    عيوب الديموقراطيا :

    أولا : الاحتكام إلى غير الله ( غير الكتاب و السنة ) كما أسلفنا .

    ثانيا : الحكم بحسب الأغلبية ، فإن كان أغلب الناس فاسدين مفسدين ، أخرجوا لنا من بينهم ممن هو على شاكلتهم ، من يحكم أمة الإسلام . و ما ينتجه هذا النوع من الحكم ، هو نفس ما ينتجه حكم ذئاب لقطيع من الخراف .

    ثالثا : اكتساب المنتخبين من قبل الأغلبية شرعية ما ، تمنحهم حصانة ، توفر لهم الظروف المناسبة للاستجابة لنزواتهم و انحرافاتهم ، أحيانا على مرأى و مسمع من الناس ، مما يزيد الأمة فسادا على فساد .

    رابعا : توفير فرص التكافئ لجميع الأصناف (نظريا على الأقل) ، حسب المبدإ الديموقراطي ، و هو ما يعطي الشر حق التواجد إلى جانب الخير ، إن لم يكن أحيانا كثيرة على حسابه . و نعني بالشر كل ما من شأنه الإضرار بالإنسان دنيا أو أخرى .

    خامسا : انقسام الأمة إلى أحزاب متناحرة متصارعة ، و هو ما يضعفها و يخالف أصل الوحدة الذي أسسه لها دينها .

    و انظر كيف أنه رغم هذه العيوب البينة ، صار كثير من الناس يدعون لهذا المذهب ، و منهم علماء للشرع ، كان الأجدر بهم التحذير من مغبة الوقوع فيه . أم أننا لن نتراجع عن ذلك ، كما هي عادتنا ، حتى يتراجع غيرنا ، بعد أن يستنفدوا أغراض هذا المذهب التي وضع لها ، و يجدوا مذهبا بديلا يدعوننا إليه مرة أخرى ، و ينبري للدعوة إليه منا زعماء لنا جدد ، وفق شرع جديد ؟!

    إنه لأمر محزن و شائن ، لأمة هي خير أمة أخرجت للناس !

    و إن تعرضنا للديموقراطيا كمذهب فكري سياسي ، إنما هو من قبيل مقارعة الفكر بالفكر حسب ما يقتضيه موضوع الكتاب ، لا من منظورسياسي مخالف من طرفنا .

    و غير خفي ، أن أناسا ألزموا أنفسهم التقيد بهذا المذهب، عقيدة و عملا ، لن يتمكنوا من الترقي في المراقي الإيمانية، التي هدى الله العقل الإنساني إليها ، بسبب مجانبتهم الحق . و بالتالي ، سيبقون في دركات العقل المجرد ، إن هم لم ينزلقوا إلى مرتبة العقل البهيمي . فما أشده من حرمان !

    الجماعات الإسلامية :

    كثير من الجماعات الإسلامية ، و وعيا منها بما أسلفنا ، نذروا أنفسهم للتصدي للانحرافات السياسية التي طرأت على الأمة ، جاعلين من هذا التصدي محور عملهم ، إن لم نقل هدف وجودهم ، مما حصر الإسلام من منظورهم ، غالبا في مذهب سياسي مقابل ( إيديولوجيا إسلامية ) ، جاعلين من الوصول إلى الحكم هدفا أولا لأهدافهم ، و هو ما جعل كثيرا من النفوس التي لم تتطهر بماء الشرع على الترتيب الذي ذكرناه في الباب السابق ، تنساق وراء أغراضها باسم الدين ، و هو ما حجبها بدوره عن تحقيق ترقيها هي نفسها في مراتب الدين ، فكانت نتيجتها نتيجة من سبقها ، و إن اختلف طريقاهما .

    و لا بأس هنا أن نبين ، أن الحكم و تنظيم الدولة في الإسلام ، إنما جعل للحفاظ على الدين ، أي على فرصة الترقي للعقول البشرية ، ميسرة دانية ؛ و لم يُجعل الدين عاملا مؤسسا لحكم هو الغاية ، كما يعتقد ذلك بعض الناس .

    الإنسان هو محور الوجود ، و هو المخاطب للدين ، فكيف يجعل مجرد أداة أو وسيلة لتحقيق غايات أدنى رتبة منه على كل حال من منظور الترتيب العقلي . هذا لا يُقبل من أي مذهب وضعي ، فكيف بمن يعمل باسم الدين ؟!

    و إننا هنا إذ ندعو إلى مراجعة الجماعات الإسلامية مواقفها ، نؤكد على أن من هذه الجماعات من حفظه الله مما ذكرنا ، فلا سبيل إلى التعميم إن كنا نريد الإنصاف .

    ب ـ الاقتصاد :

    لا تخفى تبعية أمتنا الإسلامية في اقتصادياتها لغيرها من الأمم ، و نحن هنا ، لسنا بصدد البحث في الأسباب التي أدت إلى هذه الحال ، لأنه لا يدخل ضمن غرض هذا الكتاب ، و لكن نريد أن ننبه إلى أن الاقتصاد ، أو الظروف المادية على عمومها ، من توابع الإنسان و ليس العكس . و إننا نرى اليوم كيف يسخر الإنسان الذي كرمه الله تعالى ، من أجل بلوغ غاية اقتصادية ، يقال إنها من أجله تراد ، لكن ، ماذا يبقى من ذاك الإنسان ، من إنسانيته ، عندما يأتي الفتح الاقتصادي ؟

    إن سلفنا عندما قاموا بهذا الدين ، لم يقصدوا من ورائه ، في المرتبة الأولى ، القضاء على الطبقة البورجوازية القرشية ، أو الاستعباد القرشي ، و لم يروموا اقتسام الثروات بين سادة مكة و عبيدها، و لم يطمحوا إلى تحسين وضعيتهم التي يحكمها غالبا فقر و عبودية ، بل قاموا بهذا الدين ، ليحققوا في أنفسهم معنى التوحيد الذي جاء به ، و يرقوا باتباعه إلى درجات الإنسانية التي كانت محجوبة عنهم بمقتضى الجاهلية . أرادوا أولا أن يعيدوا للإنسان إنسانيته !

    و لما كثر المسلمون وقامت للإسلام دولة ، صار إذ ذاك لهذه الدولة نظام اقتصادي ، يحفظ تلك الكرامة الإنسانية المحققة من أن تهدر ، أو تعاد إلى سابق عهد الجاهلية ، تحت حكم مسمى أي اسم من الأسماء .

    هذا هو الاقتصاد الاسلامي : اقتصاد للإنسان ، لا اقتصاد بالإنسان فقط !

    و إن الأمم المعادية للإسلام ، تحاول أن تغرس في نفوس أبناء أمتنا ، ذاك المفهوم الخاطئ للاقتصاد ، بوسائل شتى ، قانونية و عملية ، لتضمن لنفسها تبعية الأمة لها ، تلك التبعية التي تضمن بدورها ضعف الأمة ، الذي تامن هذه الأمم على نفسها معه . تأمن ، لأنها تمثل بعدائها للإسلام ، الدين الحق ، عصبة الشر و الظلام ، التي لا حياة لها مع الخير و النور .

    و المسلم الذي يُفترض فيه أنه طالب آخرة ، لا تشده مثل هذه الحبال الواهية إلى الخلف ، و لا تحوله عن قبلته الحقيقية و لا عن تحقيق ترقيه في مراتب دينه ، الذي هو سبب عزته و كرامته دنيا و أخرى .

    و لتتأكد مما قلناه ، انظر إلى تلك الأمم التي تدعي أن لها الإمامة الاقتصادية اليوم ، و انظر إلى حال الإنسان فيها و إلى قيمته ، رغم الادعاءات الكاذبة بتحقيق حقوقه ، و كيف أن ذلك الإنسان ما بقي له من إنسانيته غالبا إلا صورته الظاهرة ، التي تعلق بها أنواع متعددة من الأمراض النفسية و الخلقية و الجسدية ، الجديدة منها مضافة إلى الموروثة .
    Admin
    Admin
    Admin


    المساهمات : 1949
    تاريخ التسجيل : 10/01/2008

    كتاب يقرب التصوف Empty رد: كتاب يقرب التصوف

    مُساهمة  Admin الأربعاء مايو 16, 2012 1:58 am

    ج ـ التعليم :

    إن التعليم الذي ورثته الأمة عن المستعمر ، كان أهم إنجازات ذلك المستعمر ، ضمن خططه الاستعمارية متعددة الجبهات : ذلك أن هذا التعليم لن ينقل المعلومات التي يريدها أن تنقل إلى الأمة فحسب ، و لكن سيعمل من خلاله على تمرير مناهج تفكيره و نظرته إلى الأمور إلى الأمة . حينئذ سيكفى مؤنة التعب في التخطيط و التنفيذ ، لأن المتعلمين من أبناء الأمة على منهجه ، سيعملون بدله لتحقيق أغراضه ، علموا ذلك أم لم يعلموا .

    و مما ركز التعليم المستورد على تحقيقه ما يلي :

    أولا : تهميش التعليم الديني ، و هو أخطر من حذفه ، إذ لو حذف لتيقظت غريزة الأمة الدفاعية ، و هو لا يريدها أن تتيقظ ، فأدى ذلك التهميش إلى نبذ بعض أبناء المة دينهم من تلقاء أنفسهم .

    ثانيا : ترسيخ النظرة المادية الدنيوية لدى الأمة من خلال المواد التي تساعد على ذلك ، و إن كانت هذه المواد و العلوم خيرا في نفسها ، لكن المقصود من ورائها هو قطع علاقة الأمة بالغيب ، الذي سيبدو لها مناقضا للواقع و لما يقتضيه العقل السليم بالمنطق المادي .

    ثالثا : فتح العقل المسلم لكل أنواع الفكر و الديانات العالمية بدعوى الانفتاح و الموضوعية و التحليل العلمي و حق المقارنة ، و هو يريد بذلك تشكيك الأمة في دينها و في حقيته . فصار بعض من انفعل لهذا التعليم يصنف الإسلام واحدا من ضمن مجموعة أديان عالمية ، تكون تراث شعوب معينة ، و ثقافات مختلفة ، فغاب عنهم بذلك المدخل الإيماني الذي هو وحده يستطيع استنقاذه من مثل هذه العبثية الفكرية .

    رابعا : ترسيخ ما يسمى بالعقلانية ، بل تقديس العقل ( بمفهومهم ) و دور الفكر ، الذي يجب أن يخضع له كل شيء ، بما في ذلك الوحي . و هو أخطر ما توصل إلى تحقيقه المستعمر ، فصار كل واحد يعطي لنفسه حق تحليل و تقييم كل شيء ، بغض النظر عن كمال عقله أو نقصه ، أو عن صحة فكره أو سقمه ، صفاء ذهنه أو انطماسه ، و هو ما أدى إلى ظهور مذاهب فكرية تدعو أحيانا إلى السخرية أكثر مما تمثل فكرا بالمعنى المعروف .

    خامسا : نزع الحياء و الدب من النفوس : بحيث لا يعود تلميذ يحترم معلما ، و لا جاهل عالما . فتجد قوما يعارضون عالما أو إماما باستنادهم إلى قلة الحياء و المروءة فقط ، الشيء الذي أدى إلى فوضى لا يعرف لها أول من آخر ، كما أدى على إحجام بعض من أوتوا العلم عن الخوض في علومهم مخافة إفساد السفهاء عليهم ذلك .

    و كان من نتائج هذا النوع من التعليم : تخريج متعلمين برزوا في ميادينهم الدنيوية ، و صار منهم من يحكم الأمة في مجاله كالوزراء و غيرهم ، لكنهم خواء أو يكادون من الإيمان ، و من الأخلاق التي هي زينة الإنسان ، لا يحسون بالانتماء الكامل إلى الأمة الإسلامية بقدر ما يحسون بالتبعية للمستعمر في كل شيء ، في تفكيرهم ، و في سلوكهم ، و في طريقة عيشهم ، و في كلامهم , و ... هؤلاء صاروا ، و إن لم يعلموا ، نوابا و وكلاء لمستعمر الأمس على أمتهم اليوم . فكيف سيرتقي مثل هؤلاء في مراتب الدين ؟ أم كيف سيتركون من يريد ذلك يفعل ؟

    د ـ تقصير علماء الدين و قصورهم :

    أمام هذه المحن التي كادت تأتي على المة ، وقف علماء الشرع ، وقفة شبه محايدة ، إلا قليلا منهم . وقفوا يحللون و يصنفون ، و أحيانا يعارضون بأدب و حياء مناسبَين لما يجب أن يكون عليه أهل الدين بمنظور الغير ، و الأمة تأخذ عنهم ، إلا قليلا منهم ، دينا شبه ميت ، محصورا في عبادات تُكلّف في تعليمها و استقصاء جزئياتها ، و هي تظن (أي الأمة ) أن هؤلاء لا يخفى عنهم شيء في الأرض و لا في السماء ، و هم ( أي العلماء) قانعون بهذا المقام الذي يحتلونه ، و هذا الجاه الذي قد يفوق أحيانا جاه السلاطين ، و الذي يستعمله في بعض الأوقات أعداء الأمة بترسيخه و الحفاظ عليه ، كي يبقى من من مثبطاتها ، كابحا لمطامحها في ترقيها و تنمية مداركها .

    و لا بد هنا ، مع احترامنا لهذه الطائفة من الناس ، كي لا ننسب إلى القذف المجاني و الكلام على غير هدى ، أن نبين مرتبة العالم من غيره :

    فقد جاء في الحديث النبوي الشريف : رب حامل فقه ليس بفقيه ، رب حامل فقه إلى من هو أفقه منه .< رواه ابن عبد البر و كذا أصحاب السنن و الدارمي و أحمد و صححه ابن حبان و ابن حجر > . يفيد هذا الحديث أن من الناس من هو حامل علم لا عالم . و حمل العلم هو ما يحصله المرء بالتعلم و الاكتساب و الحفظ ، حتى إذا سئل عما تعلم ، ذكره على الوجه الذي تعلمه . أما العام فهو كما قال الإمام مالك رضي الله عنه : ليس العلم بكثرة الرواية ، و لكن هو نور يقذفه الله في قلب من يشاء من عباده .فالعلم إذن ن ملكة يعطيها الله لمن يشاء ، بها يعرف حقائق الأشياء ، و بها يميز الكلام و يستخرج مخبوءه . لكن عامة المسلمين لا يميزون بين هؤلاء و أولئك ، فوقعوا ضحية لحملة العلم المتعطشين للجاه و الدنيا ، فانحرفوا بهم عن جادة السبيل ، و قعدوا بهم عن الترقي في مراتب الدين ، بل شددوا أحيانا عليهم في إنكارها ، و عدوا الخوض فيها من قبيل الشرك تارة ، أو من قبيل الفلسفات الدخيلة تارة اخرى ، فحرم هؤلاء الحملة للعلم نفوسهم ، و حرموا غيرهم بموقفهم هذا .

    أما العلماء بحق ، فلم يدخروا جهدا في توضيح المسالك و التحذير من المهالك ، و لنا في كل عصر منهم فئة هيأها الله تعالى لذلك ، فالحمد لله على ذلك .

    ه ـ المذهب الوهابي أو السلفي :

    المذهب الوهابي ، الذي أسسه ابن عبد الوهاب ، هو مذهب عقدي لا فقهي ، قام في اساسه على محاربة مظاهر الشرك و البدعة عند المة ، لكن ما وقع فيه ، كان أدهى من ذلك بكثير : قد نسلم بدءا منطلقه ، خصوصا إذا علمنا ما يتسلل إلى نفوس العامة من الشرك ، و ما يكسو أعمالهم من البدعة ، لكن أن يصل المر إلى اعتبار رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم ، كساعي بريد جاءنا بالقرآن و ذهب ( ساعي البريد : الطارش بلهجة بلد ابن عبد الوهاب ) ، و ما علينا نحن بعد ذلك إلا العمل بهذا القرآن بعيدا عن كل صلة وجدانية برسول الله صلى الله عليه و آله و سلم ، مبنية على التعظيم و التوقير و المحبة ، فهي الضربة القاضية ، و هي بمثابة قطع للحبل السُّري الذي يربط الأمة بنبيها الذي يعلمها و يزكيها ، أ ولها و آخرها : هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم ، يتلو عليهم آياته و يزكيهم و يعلمهم الكتاب و الحكمة و إن كانوا من قبل لفي ضلال مبين ، و آخرين منهم لما يلحقوا بهم ، و هو العزيز الحكيم . لكن هؤلاء ، لما لم يجدوا تعليمه صلى الله عليه و آله وسلم ذوقا ، و لم يتزكوا على يديه الشريفتين ، ظنوا أن ذلك من قبيل المحال ، و عدوا من تكلم به من المجانين و المشركين ، رغم صريح الكتاب و السنة ، فسدوا بذلك على طائفة من الأمة الباب ، و تركوهم خلف الحجاب ، لا يستطيعون الترقي في مدارج الإيمان . و نحن نقول لهم :

    أولا : إن كان ما تنطلقون منه توحيدا ، فاعلموا أن كلمة التوحيد لم يرد بها كلمة و لا سنة ، و إن ذكرت في أحاديث معدودة فلأن المعنيين كانوا من النصارى القائلين بالتثليث . و هذا ما ينقض عليكم مذهبكم بادعائكم التزامكم السنة ، فلوا التزمتم بها ما ابتدعتم اصطلاحا في العقيدة لم ترد به . و لو كان التوحيد كما تفهمون، لكان ينبغي أن يكون أبرز عنصر فيها بالتصريح ، إلا إن كان عندكم المسلمون في مقام أهل الكتاب . فإن قلتم هو معنى مفهوم عبرنا عنه ، قلنا : إن هذا بعينه ما تنكرونه على غيركم ، فإما أن تسلموا به لغيركم ، أو أن تعودوا عنه أنتم أيضا .

    و ليعلم القارئ أن التوحيد المقصود هو مشتق من اسم الله الواحد ، لكن فيه تعمل للعبد يفهم من هذه الصيغة : و هو جعل ما لم يكن واحدا ( كثيرا ) واحدا ، و فيه سوء أدب مع الله نعالى عند العلماء المحققين ، فإن الله ما قال وحدوني ! و لا قال رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم : وحدوا الله ! بل جاء في القرآن : فاعلم أنه لا إله إلا الله . و : لا إله إلا أنا فاعبدون . و أمثالها . و جاء في السنةو : من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة . <أخرجه أبو داود > و أمثاله . و التوحيد الذي ذهبت إليه الوهابية ، توحيد عقلي نظري لا شرعي ، و ذلك بسبب إعمالهم الفكر في غير مجاله ، و هو كما أسلفنا من آفات المرتبة الأولى من الدين التي هي مرتبة الإسلام . أدى بهم هذا الفكر ( و هو البدعة حقا ) إلى سوء أدب مع الله و رسوله كبير ، نرجو الله السلامة .

    و جدير بالذكر ، أن للتوحيد ( مع تجوز في التعبير ) مراتب مختلفة تتناسب و مراتب الدين التي ذكرناها مرارا : فلمرتبة الإسلام توحيد خاص بها ، و لمرتبة الإيمان توحيد يغيب عن سابقتها ، و لمرتبة الإحسان توحيد خالص من الشوائب التي تعرض لسابقتيها ، و هذا أمر لا يعرف إلا ذوقا ممن يسر الله له سلوك طريقه .

    ثانيا : إن مذهب السلف الذي تدعون ، لا يستقيم ، لأن السلف ليسوا مصدرا للدين ، و إن كانوا مرجعا في بعض أجزائه . و هم على الحقيقة مظهر من مظاهر التفاعل مع الدين و تحقيق ثمراته ، و لكل زمان مظهر لهذا التفاعل لمن حقق النظر . فإن سلمنا لكم ادعاء مذهب السلف ، وجب التسليم لآخر بادعائه مذهب الخلف ، و هو ما لا تقبلونه أنتم و لا يقبله غيركم . فوجب الرجوع إلى مصدرية الدين كدين لا كمتدينين . و هذا هو الأمر الذي كانت عليه الأمة إبان وحدتها و قبل أن تظر الآفات التي أشرنا إليها سابقا .

    و ـ ما علق بالتصوف من الانحرافات :

    إن التصوف ، على اختلاف في الاسم ، هو تحقيق الدين بمراتبه الثلاث ، و هو ما لا يختلف عاقلان . و قد أدى الصوفية الأخيار على مر العصور دورا في تجديد إيمان الأمة و توحيد صفوفها ، بما لا ينكره منصف ؛ لكن ، و ككل المذاهب ، فقد انتسب إلى التصوف أناس متشبهون بالصوفية من حيث الظاهر ، مجانبون لهم من حيث الباطن ، فاستغلوا مجال الكرامات و العلوم الوهبية ، التي هي حق في نفسها ، و اتخذوها مطية لاستغفال السذج من الناس و نهب أموالهم ، إلى جانب ترسيخ عقائدهم الفاسدة بينهم .

    هذا بالإضافة إلى ما يقع لبعض المريدين من خروج عن صريح العلم و الإيمان ، في حكاية بعض أقوال أكابر الصوفية دون تحقق ، بل بأخذ تلك الأقوال على ظاهرها بما يعطيه فكرهم ، خصوصا إن كان شيوخهم الذين سيقومونهم قد غادروا الدنيا ( و هو ما يسمى تصوف التبرك ) فتظهر إذ ذاك الانحرافات بأنواع عدة ، و تطغى العصبية الجهلاء . و هذا يخالف صريق التصوف التي هي أصلا لتحقيق الترقي . فنتج أن تخلف هؤلاء عن الترقي ، و انحرفوا عن السبيل التي سلكها من ينتسبون إليهم ، فذهب المضمون و بقي الشكل كما يحدث غالبا .

    هذا النوع من التصوف ( تصوف المتصوفة لا الصوفية ) جلب على أهل الله المحققين إنكر الأمة إلا قلة، هذا الإنكار الذي رسخه عدم التمحيص و عدم العلم بحقيقة المر ، و هو ما كان من شأنه أن يشكل مانعا لأغلب المسلمين عن سلوك سبيل الله و الوصول إلى العلم بالله ، الذي هو اختصاص الصوفية ، مع من شاء الله له ذلك من عباده المصطفين .

    الحلول و الاتحاد :

    يكاد المثقفون و الدارسون يجمعون على كون الصوفية قوم يقولون بالاتحاد و الحلول ، و هو ما أدى بهم إلى تكفير بعض كبار الصوفية ، بسبب حمل كلامهم على المعنى المذكور .

    و الحقيقة أن الصوفية ، كلهم ، و حتى أصحاب الشطحات منهم ، ما قالوا بحلول و لا اتحاد أبدا : ذلك أن الحلول يقتضي حالاّ و محلولا فيه ، و الاتحاد يقتضي متحدا و متحدا به ، و كلاهما شرك واضح . و هم ( أي الصوفية ) من أخص خواص الموحدين ، و هذا الشرك لا يليق بمقامهم الرفيع .

    غير أن الناظرين في كلامهم ، بعقولهم التي لم تتجاوز المرتبة الأولى من الدين غالبا ، لم يفهموا مقصدهم بسبلب خفائه عنهم ، و حملوا كلامهم على ما اعتادوه هم من خلال منطوقهم و مفهومهم ، فحكموا عليهم ظلما بفهومهم . و لو أنهم أعطوا تفاضل المراتب حقه ، ما تجرأوا على ذلك و لا تكلفوه ، و لأحسنوا الظن بهم بسبب ما عرف عنهم من تمسك بالدين و من شدة حب لله ، تكاد لا توجد إلا عندهم .

    و على علم الصوفية ، الذي يخفى عن غيرهم ، يشير أبو هريرة رضي الله عنه بقوله : حفظت من رسول الله صلى الله عليه و سلم وعائين : فأما أحدهما فبثثته فيكم ، و أمل الآخر لو بثثته قطع مني هذا البلعوم .< أخرجه البخاري > ، فهل تراه حكم بقطع بلعومه رضي الله عنه من قبل سامعيه ، إلا لحملهم لفظه الذي لو تلفظ به ، على غير مراده ؟ أي على غير الحق ؟

    فما أحوج الصوفية إلى إنصاف !

    و من الناس أيضا من جعل التصوف فلسفة ، و ما ذلك إلا بسبب غموض معانيه عليهم ، أو بسبب استعمال بعض الصوفية بعض المصطلحات الفلسفية ، أو بسبب عرضهم لبعض النظريات الفلسفية ، و تعرضهم لها بالتحليل و التقييم ، فظنوا أن التصوف من نفس جنسها . و الحقيقة أن علم التصوف حاو لجميع أنواع العلوم مهيمن عليها ، لكنه ليس فلسفة ، لأن الفلسفة من علوم النظر و الفكر ، و هو من علوم الوهب .

    و إن جامعاتنا بحاجة على مراجعة لتصنيف التصوف لديها و تعريفه ، ضمن ما تقدمه من مقررات على ضوء ما يمليه المنهج العلمي الحق .

    3 . ترتيب الأمة :

    إذا عدنا إلى المثبطات المذكورة آنفا ، و إلى جانب كونها عائقا أمام الأمة للارتقاء في الدين على الوجه المشروع ، وجدناها تشكل عاملا كبيرا من عوامل التفرقة الذي يمزق الأمة .

    فالمستغرب يسخر من الفقيه ن و الفقيه لا يبالي بالمستغرب و يعتبره كالنافلة . و السلفي يجعل الصوفي مشركا ، عليه ان يجدد إسلامه ، و المتصوف ( لا الصوفي ) يجعل الصوفي منافقا ، لا هو مسلم كالمسلمين ، و لا كافر كالكافرين . و المشفقون من حال الأمة يحزنون لما يرونه من تصارع الإخوة و تنازعهم مع اشتراكهم في الدين الواحد ، و يتمنون لو أن كل واحد سلّم لأخيه جانبه الذي يحسنه و يتقنه ، و لو أن كل واحد استعان بأخيه من أجل اكتمال شمولية الإسلام بهم في مظهر معاصر ، أحوج ما تكون الأمة إليه اليوم .

    فليت المثقف العصري يتعاون مع الفقيه من أجل التوصل إلى التوفيق بين الأصول و المستجدات ، و ليت السلفي يتعاون مع الصوفي على إقامة الدين ظاهرا و باطنا .

    و بما أن الأمة جسد ( بالتشبيه النبوي ) فلا بد لهذا الجسد إن هو أراد أن يتمكن من القيام بوظائفه الحيوية أن يكون له ترتيب معين ، يحفظ له نظامه و تناسقه : فلا الراس ينزل عن علوه ، و لا الرجل تصعد عن سفلها ، و لا اليمين يحيد عن يمينه و لا الشمال يصير يمينا .

    و باعتبار مراتب الدين التي مرت ، لا بد للأمة من الحفاظ على الترتيب المنطقي التالي :

    المرتبة الأولى : أو الإمامة ، و نعني بها إمامة التربية و التوجيه ، لا إمامة الحكم ، و هي للمحسنين الذين تحققوا بمقام الإحسان ، و الذين قال الله على لسانهم : و اجعلنا للمتقين إماما .

    المرتبة الثانية : مرتبة المتحققين بمقامات الإيمان ، و هم عمدة المعاملة مع الله على قدم الصدق و مع بذل المجهود .

    المرتبة الثالثة : علماء الشرع الذين لم يتحققوا بإحدى المرتبتين السابقتين ، و إلا فهم منها ، ثم بعد ذلك يأتي عموم المسلمين .

    فإن وفقت الأمة ، على اختلاف مراتبها ، إلى احترام الترتيب المنطقي لها ، فلا شك سيصلح أمرها ، و يتحقق لها ما تحقق للسلف الصالح الذين كانوا على هذا المنهاج عاملين ، و لحدود المراتب حافظين .

    الفصل الثاني : العولمة :

    1 . العولمة :

    إن الذين يسلكون سبيل التلبيس على الأمة ، اتخذوا من تطور أجهزة الإعلام و التواصل ذريعة لإقناعها بأن تذوب في محيطها العالمي ، و ما ذلك في الحقيقة إلا بتخليها عن دينها ، هذا الدين الذي ما فتئوا يقنعونها بمماثلته لباقي الأديان . و بما أن كل شعب أوأمة ، يفترض أنها ستتنازل عن دينها إما كليا أو جزئيا ، فما عليها إلا أن تفعل مثلهم حسب ما تمليه " الديموقراطيا " العالمية ، و لن تخسر بذلك شيئا كبيرا ، بل ستربح الانسجام الذي ستحققه مع العالم المعاصر ، عالم الكفر و الإلحاد على التحقيق ، عالم البهيمية و الانحطاط ...

    إن كانت العولمة قدر العالم ، فأمتنا أحق بإعلانها و الإمامة فيها ، لأنها صاحبة شريعة عالمية خاتمة لجميع الشرائع ، ذات دين صالح لكل زمان و مكان ، قابل للتطور ( التجدد ) مع مستجدات كل عصر بما يناسبه ، دون الخروج عن الأصول الحاكمة لهذا التطور ن كما لا تخرج تلك المستجدات من جهتها عن أصول أمهاتها في العصور الخالية .

    لأمتنا أبواب الترقي إلى مراتب الكمال مشرعة من دون سواها ، بالحجة و بالبرهان ، إن كانت البشرية تريد تحقيق إنسانيتها و الفوز في داريها .

    مَن الأجدر بقيادة العالم : الأعمى أم البصير ؟ الأعمى الذي لا يعرف ربه و لا يعرف نفسه ؟ أم البصير الذي بعرف ربه و يعرف نقسه ؟

    تحدثوا عن عولمة اقتصاد ...

    ثم عن نظام عالمي جديد ...

    ثم عن " التسامح الديني " ...

    و ....

    و هم لا يريدون إلا تحويل الأمة الإسلامية عن دينها ، إذ لا يُقصد من أجل السرقة و النهب إلا الغني ، و ما من غني في العالم غنى الأمة الإسلامية لو علمت !

    لن تخسر مع العولمة كما يريدونها أمة من الأمم كما تخسر الأمة الإسلامية ، لأنها ستستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير ، أما غيرها فربما سيخسرون ماديا إن هم خسروا ، لكنهم لن يخرجوا من ظلمة إلا إلى مثلها ، و لا من فساد إلا إلى نظيره .

    2 . السلام :

    من أهداف العولمة المزعومة ، تحقيق السلام ، السلام العالمي الشامل . ما بقي إلا أن يقال بخلود العالم و جعله جنة أبدية !

    إن كلاما كهذا ، لا يصدقه الأطفال ، فكيف بعقلاء الرجال !

    إن السلام في العالم لن يكون إذا كان ، إلا على حساب الأمة الإسلامية : فالظلمة لن تصالح النور إلا إذا انطفأ لأنه ماحيها و مفقدها عينها : و لن ترضى عنك اليهود و لا النصارى حتى تتبع ملتهم . فالسلام الذي يريدونه واضح : هو استسلام و إقرار بالتبعية على الدوام . فإن لم نقبل ، قيل لنا : أنتم دعاة حرب و إرهابيون ، و كأنهم ملائكة لا يعصون الله ما أمرهم و يفعلون ما يومرون ، و هم الذين لا يتورعون عن ارتكاب جرائم قد تخجل الشياطين من التفكير فيها !

    نعم ، دعاة حرب ، على الجهل و الظلمة ، لإقامة السلام الحق الذي يضمن للإنسان إنسانيته ، كيفما كان جنسه أو دينه أو عرقه ( تحت حكم الله ) . ثم إن السلام الذي يدعون إليه ، مخالف للحقيقة التي أنشأ الله تعالى عليها الدنيا ، و هي التقابل و التضاد ، اللذان يدعوان إلى الصراع الدائم ما دامت هذه الدار . حتى إذا جاء يوم الآخرة و وقع الفصل بين المتنازعين ، و دخل كل فريق داره فريق في الجنة و فريق في السعير ،حينئذ يكون السلام لأهل السلام في دار السلام . أما سلام جاهل ، من وضع وهم جاهل ، يدعو إليه جهال ، فباطل لا أساس له من العقل ، لمن كان له عقل أو ابتغى إلى العقل سبيلا .

    3 . حقوق الإنسان :

    لن نعرض لحقوق الإنسان كما أقرها الميثاق الدولي بندا بندا ، فنحن لا نرى لها القيمة التي تستأهل ذلك ، لكن بدل ذلك نشير إلى أول حق من حقوق الإنسان على الحقيقة ، و هو السماح له بتحقيق إنسانيته ، و الذي لا نكاد نجد من يرفع شعاره .

    و من حق الإنسان على أخيه ، و من واجبه على نفسه ، أن يسعى إلى الترقي من دركات البهيمية و المادية إلى درجات الإنسانية ، حسب ما بيناه خلال هذا الكتاب . ذلك الترقي الذي لن يتمكن له بدون إسلام . ذلك الإسلام الذي هو بحاجة إلى عرض ، في عصر العولمة ، على جميع أفراد الإنسانية بالصورة الصافية الأصلية ، بعيدا عن المزايدات و الديماغوجيات المغرضة ، و بعيدا عن التشويهات التي تلصق به ظلما من قبل أعدائه ، أو تلحق به جهلا من قبل بعض المسلمين أنفسهم .

    من حقوق الإنسان ، تعريفه عبوديته لله ، و تمكينه من إقامتها على الأسس التي شرعها الله . و من حقوقه أيضا تحريره عن غير الله ، بما في ذلك نفسه ، التي تدعوه إلى العاجلة و إلى الحضيض .

    من حقوق الإنسان أيضا عدم تقييد العقل الإنساني بأنواع القيود التي رأينا منها بعضها سابقا ؛ و عدم الحيلولة دونه و الخلوص من سجنه الفكري الموجَّه ، إلى آفاق العقل المعضد ، حتى يعلم ما لم يكن يعلم .

    و من حقوق الإنسان تمكينه من استعمال علمه بما يتطلبه ، للوصول إلى ثمرات الأخلاق و الأذواق التي تسعده دنيا و أخرى .

    هذا إن كان المراد من "حقوق الإنسان " إعطاء الإنسان حقه حقا ، و هو ما يحتاج إلى نظر !....


    خاتمـــــــــة

    لا بد للعقل كي يتبين سبيله ، أن يعلم الحكمة من وجوده . و قد بين الله تعالى ذلك في قوله تعالى : وماخلقت الجن و الإنس إلا ليعبدون . فالعقل خُلق ليعبد الله ، لا يستثنى من ذلك عقل من العقول على الإطلاق . فمنها ما يعبد طواعية ، و هم المسلمون له سبحانه ، و هؤلاء لهم السعادة ؛ و منها ما يعبده كرها ، و هي العقول الجاحدة ، الكافرة و المشركة ، و لها الشقاء . و انظر قول الله تعالى : و لله يسجد من في السماوات و الأرض طوعا و كرها و ظلالهم بالغدو و الآصال . و السجود قمة العبادة ، فإن خرج المعاندون عن أمر الله ، فهم غير خارجين عن إرادته سبحانه . فهم على كونهم عبيدا ، ما حرموا بإبايتهم إلا أنفسهم من السعادة الأبدية ، و العياذ بالله .

    و من بين العقول المسلمة لله ، اصطفى الله عقولا لم تعقل سواه ، و هي أعلى مرتبة للعقلاء ، و هم الأنبياء و من على قدمهم . فلا أعقل من هذا الصنف عند بني آدم . و من أراد أن يسلك بعقله سبل الكمال ، فلا محيد له عن الاقتداء بهم ، اولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده .فإذا علمنا هذا، علمنا أن لا أشرف من العقل عند الله ، و هو الذي جعله محلا لمعرفته سبحانه . و هذا المعنى هو الذي نبه إليه ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير قوله تعالى :إلا ليعبدون بـ : إلا ليعرفون . فمعرفة الله على الحقيقة هي أكبر درجات العبودية ، إذ كيف يُعبد من لا يُعرف ؟!

    و بما أن جميع العقول له عابدة ، ظهر أن جميع العقول له عارفة ، إلا أنها على تفاوت كبير في مراتب هذه المعرفة . كما أن من العقول من يعرف و يعلم أنه يعرف ، و منها من يعرف و لا يعلم أنه يعرف . فتبين من هذا أن الحجاب جهل ، و الجهل عدم .

    فسبحان من خص بعلمه أولي الألباب ، و احتجب عن غيرهم بغير حجاب !

    و إن التربية أو التزكية ، الهادفة إلى إيصال العقل إلى درجات معرفة الله تعالى ، إنما في الحقيقة تعمل على تخليصه من العوائق و العلائق التي تحول دونه و الانطلاق إلى هدفه .

    و من العوائق ما هو معلوم للعموم ، كحب الدنيا و المعاصي ، و باقي الصفات المذمومة ، و منها ما يخفى عن جل العقول ، و هي المحامد التي يقف العقل معها و يتوجه إليها ، و يكتفي بها دون الغاية الحقيقية ، فيحجبه هذا النوع من العوائق عن ربه ، الذي لا يرضى أن يشاركه في قلب عبده سواه . فالنوع الول هو الحجب الظلمانية ، و النوع الثاني هو الحجب النورانية ، و الله من وراء ذلك كله ، محيط بذلك كله .

    و من رحمة الله بعباده ، أن جعل في كل زمان رجالا ، أهّلهم بما يلزم كي يدعوا إليه على بصيرة ، في رفق و لطف ، و يأخذوا بأيدي من شاء الله له الهداية ، ليخرجوهم من الظلمات إلى النور .

    فما أحوج أمتنا ، و العالم بأجمعه ، إلى الائتمام بهؤلاء !

    و لو علم سجناء الفكر و النظر ما يكسبونه من وراء التلمذة على أيديهم ، ما سبقهم إليهم أحد . و لو علم المحبون المشتاقون إلى نور النبوة ما يحرزه هؤلاء منها بالوراثة ، لآسترخصوا كل نفيس في سبيل الفوز بسويعات معهم ، على بساط الحضور .

    و إننا بهذا الكتاب ، نرجو أن نكون قد أعطينا نظرة إجمالية للمراتب التي ينزل العقل فيها ، في أثناء سلوكه سبيل الترقي ، كما نتمنى أن نكون قد أثَرنا بعض النفوس ، و رغبناها في تحقيق تلك المراتب ، و التحقق بما تتضمنه من المنازل و أسمى المآرب ، سائلين الله تعالى للجميع النجاة من الآفات المحدقة بالمسالك ، و التجنيب لكل المعاطب و المهالك .

    و الحمد لله على هدايته و رعايته ، حمدا منه بدايته و إليه نهايته ؛ و الصلاة و السلام على شمس الهداية الساطعة ، سيدنا محمد و آله و صحبه ، و على كل عبد لله مخلَص .



    .


      الوقت/التاريخ الآن هو الجمعة أبريل 26, 2024 2:08 am