شباب الختمية

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
شباب الختمية

منتدى شباب الختم يتناول قضايا الشباب وفعالياتهم


    خلاصة التحقيق في بيان حكم التقليد والتلفيق

    Admin
    Admin
    Admin


    المساهمات : 1949
    تاريخ التسجيل : 10/01/2008

    خلاصة التحقيق في بيان حكم التقليد والتلفيق Empty خلاصة التحقيق في بيان حكم التقليد والتلفيق

    مُساهمة  Admin الخميس أغسطس 18, 2011 7:28 am

    عبد الغني النابلسي رحمه الله





    الحمد لله ولي التوفيق، والشكر له على الهداية إلى حقيقة التحقيق...

    والصلاة والسلام على رسوله محمد وعلى آله وأصحابه وتابعيه، وأنصاره وأحزابه السالكين على أقوم طريق.



    أما بعد،

    فيقول العبد الفقير إلى مولاه الخبير عبد الغني النابلسي الحنفي، علمه الله تعالى ما لم يعلم وأدامه سالكاً على السنن الأقوم:



    قد اطلعت على رسالة في حكم التقليد في المذهب، صنفها مفتي البلد الحرام مكة المشرفة على جميع بلاد الإسلام، وهو الشيخ محمد عبد العظيم ابن المنلا فرَّوخ رحمه الله تعالى وعفا عنه. وقد اشتملت على ستة مقاصد، لم تتحرر على وجه الصواب لكل قاصد.



    فالمقصد الأول: هل على الإنسان التزام مذهب معين أم لا؟

    والثاني: هل موافقة المذهب من غير علم به كافية أم لا؟

    والثالث: هل يجوز التقليد من غير اعتقاد الأرجحية فيما قلده أم لا؟

    والرابع: ما حكم الاقتداء بالمخالف؟ وهل العبرة في ذلك لرأي المقتدي أو الإمام؟

    والخامس: هل يجوز التقليد بعد الفعل أم لا؟

    والسادس: في بيان حكم التلفيق.





    فطلب مني بعض الأصحاب تحقيق هذه المقاصد المهمة على وجه الصواب، مخافة أن يغتر بما لم يُحرَّر أهلُ البداية من الطلاب، فشرعت في ذلك مستعيناً بالقدير المالك، وقد سميت ما شرعت فيه:

    خلاصة التحقيق في بيان حكم التقليد والتلفيق.

    والله حسبي ونعم الوكيل، وعلى الله قصد السبيل – أ هـ.





    مطلب: هل على الإنسان التزام مذهب معين أم لا؟

    المقصد الأول: فهل على الإنسان التزام مذهب معين أم لا؟

    اعلم أولاً – علمك الله تعالى كل خير – أن مذاهب السلف الماضين من الصحابة [والتابعين] وتابعي التابعين – رضوان الله تعالى عليهم أجمعين – كثيرة لا تكاد تنحصر الآن عدداً، أو كلها اجتهادات استوفت الشروط، فاستفادت من الله تعالى معونة ومدداً ولا يجوز لأحد الطعن في شيء منها أبداً.

    كما قال الشيخ عبدالرؤوف المناوي رحمه الله في شرح الجامع الأسيوطي: "ويجب علينا أن نعتقد أن الأئمة الأربعة والسفيانين – يعني سفيان الثوري، وسفيان بن عيينة – والأوزاعي، وداود الظاهري، وإسحاق بن راهويه، وسائر الأئمة على هدى، ولا التفات لمن تكلم فيهم بما هم بريئون منه." انتهى.



    وفي جمع الجوامع: وأن الشافعي، ومالك، وأبا حنيفة، والسفيانين، وأحمد، والأوزاعي، وإسحاق، وداود، وسائر أئمة المسلمين على هدى من ربهم.



    وقال الشارح المحلي: ولا التفات لمن تكلم فيهم بما هم بريئون منه. انتهى.



    قلت: فإن من اشتمل على ما يعاب به في الدين ولم يطعن فيه أحد، فلا إثم على من لم يطعن، وأما إذا لم يشتمل على شيء من ذلك، ووقع الطعن من أحد، فالإثم على الطاعن. قال تعالى: ) تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون (. وأما تقليد مذهب من مذاهبهم الآن غير المذاهب الأربعة، فلا يجوز لا لنقصان في مذاهبهم، ورجحان المذاهب الأربعة عليهم، لأن فيهم الخلفاء المفضلين على جميع الأمة، بل لعدم تدوين مذاهبهم وعدم معرفتنا الآن بشروطها وقيودها، وعدم وصول ذلك إلينا بطريق التواتر، حتى لو وصل إلينا شيء من ذلك كذلك جاز لنا تقليده، لكنه لم يصل كذلك.

    قال المناوي رحمه الله تعالى في كتابه المذكور: لا يجوز تقليد الصحابة، وكذا تقليد التابعين؛ كما قاله إمام الحرمين من كل من لم يدون مذهبه، فيمتنع تقليد غير الأربعة في القضاء والإفتاء، لأن المذاهب الأربعة انتشرت وتحررت، حتى ظهر تقليد مطلقها، وتخصيص عامتها، بخلاف غيرهم لانقراض أتباعهم، وقد نقل الإمام الرازي إجماع المحققين على منع العوام من تقليد أعيان الصحابة وأكابرهم. قال المناوي رحمه الله تعالى: نعم يجوز لغير عامي من الفقهاء تقليد غير الأربعة، في العمل لنفسه إن علم نسبته لمن يجوز تقليده، وجمع شروطه عنده، لكن بشرط أن لا يتتبع الرخص، بأن يأخذ من مذهب الأهون بحيث تنحل رتبة التكليف من عنقه، وإلا من يجز.

    وقال في الأشباه والنظائر لابن نجيم الحنفي رحمه الله تعالى إنه: صرح في التحرير لابن الهمام إن الإجماع انعقد على عدم العمل بمذهب يخالف الأربعة لانضباط مذاهبهم، واشتهارها وكثرة اتباعها. انتهى.

    إذا علمت هذا، فاعلم أن المذاهب الآن التي يجوز تقليدها هي هذه المذاهب الأربعة لا غير.

    انحصر الآن العمل بشريعة محمد r في العمل بما ذهب إليه أحد الأربعة فقط على العموم، فالأمر المتفق عليه المعلوم من الدين بالضرورة، لا يحتاج إلى التقليد فيه لأحد الأربعة، كفرضية الصلاة، والصوم، والزكاة، والحج، ونحوها، وحرمة الزنا، واللواط، وشرب الخمر، والقتل، والسرقة، والغصب، وما أشبه ذلك.

    والأمر المختلف فيه هو الذي يحتاج إلى التقليد فيه، فإذا قلد فيه الإنسان مذهباً معيناً من المذاهب الأربعة، فهل يلزم ذلك الإنسان الدوم عليه، أو يجوز له الانتقال عنه؟

    قال الشيخ الإمام أبو عبد الله محمد بن عبد الملك البغدادي الحنفي – رحمه الله تعالى – في رسالة له عملها في بيان حقيقة التقليد.

    اعلم: أن التقليد هو قبول قول الغير من غير معرفة دليله، وأما معرفة دليله فليس إلا وظيفة المجتهد، والتقليد مناط العمل، فكما لا يجوز للمجتهد العمل في الوقائع إلا باجتهاده ورأيه، كذلك لا يجوز للمقلد العلم في كل واقعة من الأعمال والأحكام إلا بتقليده، واستفتائه من مفت مجتهد، أو حامل فقه، وقالوا الواجب على المقلد المطلق اتباع مجتهد في جميع المسائل، فلا يجوز له العمل في واقعة إلا بتقليد مجتهد، أي مجتهد كان وأما إذا كان مجتهداً في البعض فقد اختلف فيه، فقيل: يقلد فيما يعجز فيه عن الاجتهاد ويجتهد فيما لا يعجز بناءً على التجزي في الاجتهاد وهو الراجح عد الأكثر، والمقلد إذا اتبع أحد المجتهدين وأخذ بقوله، وعمل بموجبه، يجوز له أن يقلد غير ذلك المجتهد في حكم آخر يعمل به، كمن قلد أبا حنيفة – رحمه الله تعالى – أولاً في مسألة، وثانياً الشافعي – رحمه الله تعالى – في أخرى، كذا صرح ابن الهمام في كتابه التحرير في علم الأصول؛ وبه قال الآمدي وابن الحاجب. قال ابن الهمام: وذلك للقطع بأنهم في كل عصر كانوا يستفتون مرةً واحداً، ومرةً غيره، غير ملتزمين مفتياً معيناً. وهذا إلا لم يلتزم حكماً بخصوصه، ولم يعلم بهذا الحكم سابقاً، وأما إذا علم به بعد أن قلده فيه فلا يرجع فيه باتفاق العلماء، كذا قاله الآمدي وابن الحاجب. قال ابن الهمام: حكم المقلد في المسألة الاجتهادية كالمجتهد، فإنه إذا كان له رأيين في مسألة وعمل بأحدهما يتعين له ما عمل به، وأمضاه بالعمل فلا يرجع عنه إلى غيره إلا بترجيح ذلك الغير، كمن اشتبهت عليه القبلة في جهتين، أو جهات، فاختار واحدة يتعين له هذه الجهة ما لم يرجح الآخر، وكذا القاضي فيما له رأيين فيه بعد أن حكم وأمضاه بالحكم في أحدهما، فالمقلد إذا عمل بحكم من مذهب لا يرجع عنه إلى آخر، من مذهب آخر. انتهى كلام ابن الهمام.

    واعلم أن مذهب الجمهور، والذي اختاره ابن الهمام، أن أصل الالتزام ليس بواجب ابتداءً، بل يجوز لكل أحدٍ أن يستفتي في كل واقعة عند أيّ مفت اختاره، ويعمل بحكمه كما كان في القرون الفاضلة من الصحابة والتابعين رضوان الله عليهم أجمعين.

    ونقل صاحب العقد الفريد عن الإمام النووي ما يعضد هذا المذهب حيث قال: والذي يقتضيه الدليل أنه لا يلزم التمذهب بمذهب معين، بل يستفتي من شاء ومن اتفق، لكن من غير تلقط الرخص، فلعل من منعه شاء لم يثق بعدم تلقطه. انتهى كلام النووي. وقال ابن الهمام في كتابه "التحرير": فلو التزم المقلد مذهباً معيناً كأبي حنيفة والشافعي، فقيل: تلزمه. انتهى. يعني الاستمرار عليه فلا يعدل عنه في مسألة من المسائل من مذهب آخر، لأنه بالتزامه يصير ملزوماً به كما التزم مذهبه في حادثة معينة ولأنه اعتقد أن المذهب الذي انتسب إليه هو الصواب فعليه الوفاء بموجب اعتقاده، كذا في شرح التحرير لابن أمير حاج.

    وقيل: لا يلزمه وهو الأصح لما وجهه الرافعي وغيره، بأن التزامه غير ملزم إذ لا واجب إلا [ ما ] أوجبه الله ورسوله، ولم يوجب الله تعالى ورسوله على أحد من الناس أن يتمذهب لرجل من الأمة فيقلد دينه في كل ما يأتي ويذر غيره، ولا قائل به أحد من المجتهدين، أن من تبعني فلا يتبع أحداً غيري. إلا هنا كلام البغدادي في رسالته.

    وفي شرح الجوامع للمحلي – رحمه الله تعالى والأصح أنه يجب على العامي وغيره ممن لم تبلغ رتبته الاجتهاد التزام مذهب معين من مذاهب المجتهدين، ثم في خروجه عنه أقوال:

    أحدها: لا يجوز لأنه التزمه وإن لم يجب التزامها.

    ثانيها: يجوز، والتزام ما لا يلزم غير ملزم.

    ثالثها: لا يجوز في بعض المسائل، ويجوز في بعض توسطاً بين القولين، والجواز في غير ما عمل به أخذاً مما تقدم، في عمل غير الملتزم، فإنه إذا لم يجز له الرجوع – قال ابن الحاجب كالآمدي اتفاقاً – فالملتزم أولى بذلك، وقد حكيا منه الجواز ويقيد بما قلناه يعني في غير ما عمل به، وقيل: لا يجب عليه التزام مذهب معين، فله أن يأخذ فيما يقع له بهذا المذهب تارةً وبغيره أخرى وهكذا. انتهى.

    وقال والدي – رحمه الله تعالى – في شرحه على شرح الدرر: روى البيهقي في المدخل بسنده عن ابن عباس – رضي الله عنهما –، أنه قال: قال رسول الله r: " مهما أوتيتم من كتاب الله فالعمل به لا عذر لأحد في تركه، فإن لم يكن في كتاب الله فسنة مني ماضية، فإن لم تكن في سنة مني فما قاله أصحابي، إن أصحابي بمنزلة النجوم في السماء، فأيما أخذتم به اهتديتم، واختلاف أصحابي لكم رحمة ".

    قال لجلال السيوطي في " جزيل المواهب ": في هذا الحديث فوائد؛ إخباره r باختلاف المذاهب بعده في الفروع، وذلك من معجزاته r ألنه من الإخبار بالمغيبات والتخيير للمكلف في الأخ بأيها شاء من غير تعيين لأحدها، ويستنبط منه أن كل المجتهدين على هدى، من غير تعيين لأحدها، ولكنهم على حق فلا لوم على أحد منهم، ولا ينسب إلى أحد منهم تخطيئه لقوله: " فأيما أخذتم به اهتديتم ".

    وأخرج الخطيب البغدادي في كتاب " الرواة " عن مالك ن طريق إسماعيل بن أبي المحامد، قال هارون الرشيد لمالك بن أنس: يا أبا عبدا لله ! تكتب هذه الكتب وتفرقها في آفاق الإسلام لتحمل عليها الأمة؟! قال: يا أمير المؤمنين ! إن اختلاف العلماء رحمة من الله على هذه الأمة، كل يتبع ما صح عنده، وكل على هدى، وكل يريد الله.

    ثم قال الجلال السيوطي: واعلم أن اختلاف المذاهب في هذه الملّة نعمة كبيرة، وفضيلة جزيلة عظيمة، وله سر لطيف أدركه العالمون، وعمي عنه الجاهلون، حتى سمعت بعض الجهال يقول: النبي r جاء بشرع واحد فمن أين مذاهب أربعة؟

    ومن العجيب أيضاً من يأخذ في تفضيل بعض المذاهب على بعض تفضيلاً يؤدي إلى تنقيص المفضل عليه وسقوطه، وربما أدى إلى الخصام بين السفهاء، وصارت عصبة وحمية الجاهلية، والعلماء منزهون عن ذلك وقد وقع الاختلاف في الفروع بين الصحابة رضي الله تعالى عنهم وهم خير الأمة، فما خاصم أحدٌ منهم أحداً، ولا عادى أحد منهم أحداً ولا نسب أحدٌ إلى أحد خطأً ولا قصوراً، والسر الذي أشرت إليه قد استنبطته من حديث: "إن اختلاف هذه الأمة رحمة لها وكان اختلاف الأمم السابقة عذاباً وهلاكاً". فعرف بذلك أن اختلاف المذاهب في هذه الملة خصيصة فاضلة لهذه الأمة، وتوسيعٌ في هذه الشريعة السمحة السهلة، فكان الأنبياء – صلوات الله عليهم – يُبعث أحدهم بشرع واحد وحكم واحد، حتى أنه من ضيق شريعتهم لم يكن فيها تخيير في كثير من الفروع التي شرع فيها التخيير في شريعتنا، كتحريم عدم القصاص في شريعة اليهود، وتحتم الدية في شريعة النصارى، وهذه الشريعة وقع فيها التخيير بين أمرين: شرع كل منهما في ملة كالقصاص والدية، فكأنها جمعت بين الشرعين معاً، وزادت حسناً بشرع ثالث وهو التخيير، ومن ذلك مشروعية الاختلاف في الفروع، فكانت المذاهب على اختلافها كشرائع متعددة كل مأمور به في هذه الشريعة، فصارت هذه الشريعة كأنها عدّة شرائع بعث النبي r بجميعها، انتهى كلامه مختصراً.

    وإنما ذكرناه لإفادته ما نحن بصدده من عدم التزام مذهب معين من المذاهب الأربعة، مع ذكر الفوائد الجليلة.

    والحاصل: أن العلماء اختلفوا في لزوم مذهب معين، وصحح كل أحد منهم ما ذهب إليه، وعدم اللزم هو الراجح كما ذكرناه بعد أن لا يخرج عن المذاهب الأربعة، والله ولي التوفيق.



    مطلب: هل موافقة المذهب من غير علم به كافية أم لا؟

    وأما المقصد الثاني: فهل موافقة المذهب من غير علم به كافية أم لا؟

    اعلم: أنهم حيث أوجبوا التقليد للمجتهد على غير المجتهد فلا شك أن الموافقة من غير قصد لا تكفي، لكونها غير تقليد كما سبق في تعريف التقليد: بأنه قبول قول الغري من غير معرفة دليله.

    وقال المحلي في شرح الجوامع: التقليد: أخذ القول بأن يعتقد من غير معرفة دليله، فهو اجتهاد وافق اجتهاد القائل. ثم قال: ويلزم غير المجتهد علمياً كان أو غيره أي يلزمه التقليد للمجتهد لقوله تعالى: ) فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون ( انتهى. وقد سبق التصريح بمثل ذلك من لزوم التقليد للمجتهد، فلا تكفي الموافقة على كل حال، غير أن التقليد بعد الفعل جائز عندنا كما سنذكره إن شاء الله تعالى. فيبقى على هذا لا بد من قصد القلب في العمل بقول الغير حتى يسمى تقليداً، لكن سواءً قصد ذلك قبل الفعل – وهو الأصل المجمع عليه – أو بعد الفعل فهو صحيح عندنا أيضاً، وأما إذا خلا عملاً قبله وبعده من قصد قلبه للأخذ بقول الغير من الأئمة الأربعة فلا يكون حين العمل مقلداً لأحد من المجتهدين وليس هو بمجتهد فعمله حينئذ باطل اتفاقاً.



    مطلب: هل يجوز التقليد من غير اعتقاد الأرجحية فيما قلّده أم لا؟

    وأما القصد الثالث: فهل يجوز التقليد من غير اعتقاد الأرجحية فيما قلده أم لا؟

    قال الشيخ محمد البغدادي رحمه الله تعالى في رسالته في التقليد: واختلفوا في أنه له يجوز للمقلد تقلدي المفضول مع وجود الأفضل؟ فجوّزه الأئمة الحنفية، والمالكية وأكثر الشافعية، ومنعه الإمام أحمد وطائفة من الفقهاء، كذا في التحرير لابن الهمام وشرحه لابن أمير حاج.

    ونقل عن الإمام الغزالي أنه قال: إذا اعتقد المقلد أحد المجتهدين بالفضل، لا يجوز له أن يقلد غيره. وإن كان لا يلزم البحث عن الأعلم إذا لم يعلم اختصاص أحدهم بزيادة الفضل والعلم، وأما إذا علم واعتقد زيادة الفضل في أحدهم يلزم تقليد أورع العالمين، وأعلم الورعين. وإن تعارضا في العلم والورع قدم الأعلم على الأصح، انتهى. وقال الشيخ محمد البغدادي أيضاً رحمه الله تعالى: فإن قلت كيف يذكر ابن الهمام وشارح كلامه من علماء المذهب في المسألة الفقهية قول المخالفين من المالكية والشافعية؟ فيستدلان على ما اختاره من الوجه. قلت: إن المسألة إذا لم يكن لها اختصاص بواحد من الأئمة بل كانت مشتركة فيما بينهم في الحكم، كمسائل أصول الدين والأحكام المتفق عليها من الفروع، فيجوز الاستدلال عليها بقول الجميع، ومسألة التقليد والافتداء بالمخالف من هذا القبيل. فلا محذور في إيراد الدليل عليها من أي عالم ومجتهد كان، انتهى فاعلم. هذا فيما سنذكره.

    وقال المحلي – رحمه الله تعالى – في شرح جمع الجوامع: تقليد المفضول من المجتهدين فيه أقوال: أحدها: – ورجحه ابن الحاجب – يجوز لوقوعه في زمن الصحابة وغيرهم – y – مشتهراً متكرراً نم غير إنكار.

    ثانيها: لا يجوز، لأن أقوال المجتهدين في حق المقلد كالأدلة في حق المجتهدين، فكما يجب الأخذ بالراجح من الأدلة، يجب الأخذ بالراجح من الأقوال: والراجح منها قول الفاضل، ويعرفه العامي بالتسامع وغيره. ثالثها: المختار يجوز لمعتقده فاضلاً عنده أو مساوياً له، بخلاف من اعتقد مفضولاً ومن ثم لم يجب البحث عن الأرجح من المجتهدين، لعدم تعينه. فإن اعتقد العامي رجحان واحد منهم تعيّن، لأن تقليده وإن كان مرجوحاً في الواقع عملاً باعتقاده المبني عليه. والراجح علماً فوق الراجح ورعاً في الأصح، لأن لزيادة العلم تأثيراً في الاجتهاد بخلاف زيادة الورع، وقيل: العكس، لأن لزيادة الورع تأثيراً في التثبت في الاجتهاد وغيره، بخلاف زيادة العلم. ويحتمل التساوي لأن لكل مرجحاً. انتهى.

    وقال الشيخ محمد البغدادي في رسالته: من أحوال المقلد أن يكون من العلماء فيعتقد بحسب حاله وعلمه رجحان مذهب الغير في تلك المسألة فين له الاتباع للراجح في ظنه. انتهى. وقال المناوي – رحمه الله تعالى – في شرح الجامع نقلاً عن السبكي: إن المنتقل من مذهب لآخر له أحوال، وذكر منها: أن يعتقد رجحان مذهب الغير فيجوز عمله بالراجح في ظنه، ومنها أن لا يعتقد رجحان شيء فيجوز. انتهى.

    وهذا كله يقتضي أنه لا يلزم المقلد اعتقاد الأرجحية في مذهبه، وإن كان الأولى اعتقادها للخروج من الخلاف الواقع في ذلك كما ترى، وعلى الأولوية وعدم اللزوم ما وقع في الأشباه والنظائر في آخر الفن الثالث نقلاً عن المصفى: إذا سئلنا في مذهبنا ومذهب مخالفنا في الفروع يجب أن نجيب بأن مذهبنا صواب يحتمل الخطأ، ومذهب مخالفنا خطأ يحتمل الصواب. لأنك لو قطعت القول لما صح قولنا: إن المجتهد يخطئ ويصيب. وإذا سئلنا عن معتقدنا ومعتقد خصومنا في العقائد يجب علينا أن نقول: الحق ما نحن عليه، والباطل ما عليه خصومنا. هكذا نقل عن المشايخ. انتهى.

    ولا يحتاج أن يحمل ذلك على المجتهدين في المذهب أصحاب الترجيح، كأبي الحسن الكرخي والطحاوي والسرخسي ونحوهم. كما حمل ذلك على أمثال هؤلاء الشيخ محمد بن الفروخ المكي في رسالته حيث قال: بأن هذا في حق أئمتنا ومن أخذ بقولهم من أهل النظر، كأبي الحسن الكرخي والطحاوي وأمثالهم. إذا سئلوا يجيبوا بما ذكر. وليس المراد أن يكلف كل مقلد أن يعتقد ذلك فيما قلد فيه إلى آخر كلامه، وقد علمت فساد هذا الحمل بما ذكرنا من النقول في جواز تقليد المفضول مع العلم بالفاضل وإن ذلك لا يختص بمقلد دون مقلد، وإن الخلاف في ذلك في حق كل مقلد والله الموفق.

    Admin
    Admin
    Admin


    المساهمات : 1949
    تاريخ التسجيل : 10/01/2008

    خلاصة التحقيق في بيان حكم التقليد والتلفيق Empty رد: خلاصة التحقيق في بيان حكم التقليد والتلفيق

    مُساهمة  Admin الخميس أغسطس 18, 2011 7:30 am

    مطلب: حكم الاقتداء بالمخالف؛ وهل العبرة لرأي المقتدي أو الإمام؟

    وأما المقصد الرابع فهو: ما حكم الاقتداء بالمخالف وهل العبرة في ذلك لرأي المقتدي أو الإمام؟

    اعلم: أن هذه المسألة قد صنف فيها الإمام العلامة – رحمه الله تعالى – السندي تلميذ الإمام ابن الهمام – رسالة فيها الكلام، فنورد بعضه على وجه الاختصار، وفي كتب فقهنا عبارات أيضاً كثيرة تشابه ما ذكر في هذه الرسالة للسندي رحمه الله تعالى، تركناها خوف الإطالة في هذه العجالة.

    والذي قاله السندي في رسالته – رحمه الله تعالى – هو قوله: اعلم أنه قد اختلف علماؤنا – y – قديماً وحديثاً في جوازه يعني الاقتداء [ بالمخالف ] على أربعة أقوال:

    القول الأول: أنه يجوز الاقتداء به إذا كان يحتاط في مواضع الخلاف، وإلا فلا. وعلى هذا أكثر المشايخ رحمهم الله تعالى، منه الإمام شمسا الأئمة الحلواني، وشمس الأئمة السرخسي، وصدر الإسلام، وأبو الليث السمرقندي وصاحب الهداية، وصاحب الكافي، وقاضي خان، والتمرتاشي، وصاحب التاتارخانية، والصدر الشهيد، وتاج الشريعة، وصاحب المضمرات، وصاحب النهاية، وقوام الدين شارح الهداية، وفخر الدين شارح الكنز وشيخنا المحقق كمال الدين بن الهمام شارح، وغيرهم من المشايخ، والأصل في هذا أن المذهب الصحيح الذي عليه المشايخ سلفاً وخلفاً هو أن العبرة في جواز الصلاة وعدمه لرأي المقتدي في حق نفسه، لا لرأي إمامه، فلو علم المقتدي من الإمام ما يفسد الصلاة على زعم الإمام – كمس المرأة وغيره – يجوز الاقتداء به لأنه يرى جوازها، والمعتبر في حقه رأيه لا غير، فوجب القول بجوازها. ولو علم منه ما يفسد الصلاة عنده لا عند الإمام لا يجوز الاقتداء به، لما قلنا أن العبرة لرأي المقتدي، وأنه لم ير الاقتداء به جائزاً، فوجب القول بعدم الجواز، فإن r معه يعيد. صرح به الصدر الشهيد. وهذا هو الأصل الذي لا محيد عنه للحنفي فإنه إما أن يسلم هذا الأصل أو لا، فإن كان الثاني فلا خطاب معه لتركه المذهب، وإن كان الأول فلا محيص عنه أو يسلم في مسائل دون أخرى، فيحتاج إلى الفرق.

    ثم إنه رحمه الله تعالى سرد نقولاً عديدة، ثم قال: اعلم أنه احتاط جميع مواضع الخلاف ولم يعلم منه مفسد، هل يجوز الاقتداء به، بلا كراهة أو بها؟ وهل عليه إساءة أم لا ففي الكفاية شرح الهداية وشرح المجمع ومفتاح السعادة أنه مع الكراهة. وفي فتاوى قاضي خان: ومع هذا لو صلى الحنفي خلف الشافعي كان مسيئاً وفي بعض كتب أخر: يكره خلف المحترز عما يبطلها عندنا وهو المختار. ثم قال رحمه الله تعالى:

    القول الثاني: أنه يجوز الاقتداء بالشافعي إذا لم يعمل منه المخالفة فيما تقدم من الشروط، وهذا القول مختار ركن الإسلام على السغدي وذكره التمرتاشي وصححه شيخ الإسلام خواهر زاده.

    القول الثالث: أنه لا يجوز الاقتداء به مطلقاً وإن راعى مواضع الخلاف لأنه لا يؤدي ذلك بنية الفرض.

    القول الرابع: أنه يجوز الاقتداء به مطلقاً، قياساً على قول أبي بكر الرازي من صحة الاقتداء بمن رعف. ثم اعلم أن هذا القول انفرد به الرازي وخالفه جمهور العلماء، فلهذا قال صاحب الإرشاد: لا يجوز الاقتداء به، أي بالشافعي في الوتر بإجماع أصحابنا، يعني إذا سلم على رأس الركعتين. وقال الزيعلي: وهو الصحيح. ولم يعتبر قول الرازي لمخالفة الأكثر. حتى قال صاحب الدرر: وخلاف الواحد في مسألة واحدة لا يكون معتبراً، ويكون رداً عليه.

    والحاصل أن الاحتجاج بقول الرازي لا يكاد يصح لمرجوحيته. وقد قالوا: المرجوح في مقابلة الراجح بمنزلة المعدوم. انتهى كلام السعدي – رحمه الله تعالى: باختصار، وتمامه مفصل هناك. وقال الشيخ قاسم بن قطلوبغا الحنفي رحمه الله تعالى في كتابه "تصحيح القدوري": إني قد رأيت من عمل في مذهب أئمتنا بالتشهي، حتى سمعت من لفظ بعض القضاة: وهل ثمّ حجر؟ فقلت: نعم. اتباع الهوى حرام، والمرجوح في مقابلة الراجح بمنزلة العدم، والترجيح بغير مرجح في المتقابلات ممنوع. انتهى.

    وقد ذكر الشيخ محمد بن فروخ المكي في رسالته قول الرازي هذا، وبنى رسالته عليه، واعتمده كما صرح بذلك فيها حيث قال: وهذا القول – يعني قول الرازي – هو المنصور دراية، وإن اعتمد خلافه رواية عندنا، وهو الذي أميل إليه وعليه يتمشى ما ذهبنا إليه في هذه الوريقات، انتهى كلامه. فهذا هو التشهي واتباع المروح، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. واستدل في رسالته المذكورة على جواز الاقتداء بالمخالف من غير مراعاة منه لمواضع الخلاف كما هو مقتضى كلامه فيها بما كانت عليه الصحابة y من أنهم كانوا يقتدي بعضهم ببعض، وكذا التابعون وفيهم المجتهدون بلا نكير منهم في ذلك، وقد ترك الاستدلال بنقول المذهب الصريحة وعدل إلى الاستدلال بما كانت عليه الصحابة؛ فيقال له: كانت الصحابة y مجتهدين بصريح قولك، وأنت تابع لمجتهد آخر هو أبو حنيفة مثلاً، فكيف تقيس اجتهادهم على اجتهاد أبي حنيفة؟ فقد كانت مذاهبهم تقتضي ذلك، ومذهبك لا يقتضيه، مع أنه لم يثبت عنهم الاجتهاد على ذلك إلا بطريق الإجمال، ومن أنهم كانوا يصلون كلهم بالجماعة لا منفردين، ونحن لا نعلم كيف كانوا على وجه التفصيل، فلا يصح الاستدلال بذلك في مقابلة الصريح من المذهب كما رأيت، ومذاهب الصحابة لا يجوز تقليدها الآن كما قدمنا عن إمام الحرمين، بل لا يجوز تقليد غير المذاهب الأربعة كما سبق والله أعلم.



    مطلب: حكم التقليد بعد الفعل

    وأما المقصد الخامس: فهل يجوز التقليد بعد الفعل أم لا؟

    قال والدي رحمه الله تعالى في شرحه على شرح الدرر نقلاً عن العقد الفريد لشيخه الشيخ حسن الشرنبلالي رحمه الله تعالى:

    اعلم أنه يصح التقليد بعد الفعل كما إذا صلى ظاناً صحتها على مذهبه، ثم تبين بطلانها في مذهبه وصحتها على مذهب غيره، فله تقليده ويجتزئ بتلك الصلاة على ما في البزازية، روي عن الإمام الثاني وهو أبو يوسف رحمه الله تعالى: أنه صلى يوم الجمعة مغتسلاً من الحمام بالناس، وتفرقوا، ثم أخبر بوجود فأرة ميتة في بئر الحمام، فقال: إذن نأخذ بقول إخواننا من أهل المدينة المنورة: " إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل خبثاً ". انتهى. ونقله ابن أمير حاج عن القنية على جهة الاستشكال: في أحد المجتهد بعد اجتهاده في حكم ممنوع من تقليد غيره من المجتهدين، انتهى. ولا يرد علينا، لأن الإيراد على المجتهد لا المقلد في ذلك. انتهى كلام الوالد رحمه الله تعالى.

    قلت: ويمكن الجواب عن أبي يوسف رحمه الله تعالى أنه اجتهد في دليل الشافعي – رحمه الله تعالى – وأخذ به، والمجتهد المقيد في المذهب له أن يجتهد في أصول غير إمامه، لأنه في معنى المقلد الذي لا يلزمه التزام مذهب معين كما سبق، إذ هو ليس بمجتهد مطلق صاحب مذهب مستقل حتى يمتنع عليه ذلك، ويؤد هذا قوله: نأخذ بقول إخواننا من أهل المدينة المنورة " إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل خبثاً ". وهذا لفظ الحديث، فقد ذكر أنه أخذ بدليلهم وسماه قولهم مجازاً، وسبق الكلام في المجتهد في البعض بأنه يقلد فيما يعجز فيه عن الاجتهاد، ويجتهد فيما لا يعجز بناءً على التجزي في الاجتهاد وهو الراجح، وأبو يوسف من هذا القبيل، لأنه ليس بمجتهد مطلق من غير شبهة، ولما أخذ أبو يسف رحمه الله تعالى بدليل الشافعي t في تلك المسألة لم يقل أحد من الحنفية بجواز الطهارة من القلتين، مع أنه صار اجتهاداً له في ذلك الحين، ولم يثبت رجوعه عنه إلى مذهبه الأصلي بعد ذلك، فكيف استدلوا بواقعته هذه على صحة التقليد بعد الفعل؟ ! والقضية واحدة ولم يرد ذلك عن أحد غيره من الأئمة، وهذا عندي من أشكل الأمور؛ وربما يستأنس له بما قالوه في اقتداء المقيمين بالمسافر إذا لم يعلموا حاله: أن الاقتداء غير صحيح ولا يجب عليه أن يعلمهم بأنه مسافر، وإنما يستحب له أن يقول: أتموا صلاتكم فإني مسافر، فإذا سلم على الركعتين في الرباعية ومضى يتمون صلاتهم موقوفة على علمهم بسفر الإمام، فإذا علموا ذلك ولو بعد مدة صحت صلاتهم، وإذا علموا أنه كان مقيماً يعيدون صلاتهم، فكانت هذه المسألة من هذا القبيل ولهذا نظائر في الأحكام الثابتة بطريق الاستناد كالصلاة التي صححت خمساً المذكورة في قضاء الفوائت، فإنها تظهر صحة الخمس الفواسد عند الإمام الأعظم أبي حنيفة t، وكالمضمونات تملك عند أداء الضمان مستنداً إلى وقت وجود السبب، وكالنصاب فإنه تجب فيه الزكاة عند تمام الحول مستنداً إلى وقت وجوده، وغير ذلك مما ذكره في الأشباه والنظائر في الفن الثالث في بحث الاستناد وفي مسألتنا هذه، لما قلد المكلف غير إمامه في عمل – سبق منه – فاسد عد إمامه فقد صح عمله بسبب التقليد مستنداً إلى وقت وجوده فلا يلزمه إعادته، كما وقع لأبي يوسف – رحمه الله تعالى – في أخذه بدليل الشافعي t وهو حديث القلتين واجتهاده فيه كما سبق في أن تقليد المقلد كاجتهاد المجتهد في أنه لا يجوز له العمل إلا باجتهاده، والمقلد لا يجوز له العمل إلا بتقليد مجتهد من المجتهدين، فاعلم هذا والله ولي الهداية.



    وأما المقصد السادس: فهو في بيان حكم التلفيق

    وهو الأهم الأعم؛ فاعلم أولاً أن الناس على قسمين: اجتهاد مطلق واجتهاد مقيد.

    فأهل الاجتهاد المطلق لا يجوز لهم تقلد غيرهم مطلقاً، وإنما الواجب عليهم العمل باجتهادهم، كما ذكرناه فيما سبق، وأهل الاجتهاد المقيد يجب عليهم تقليد أهل الاجتهاد المطلق في أصول مذاهبهم فقط دون الفروع، كأبي يوسف ومحمد ونحوهما من أهل اجتهاد المقيد. والظاهر أنهم لا يختص وجوب تقليدهم في الأصول لأهل الاجتهاد المطلق بمجتهد دون مجتهد، بل يجوز لهم تقليد أصول أي مجتهد أرادوا. ويحمل على هذا واقعة أبي يوسف رحمه الله تعالى كما ذكرنا، وكل ما ورد من هذا التقليد يخرج على ذلك.

    وأما غير المجتهدين فهم عامة الناس، فلا يجب عليهم التزام العمل بمذهب معين من المذاهب الأربعة على القول الراجح كما سبق، بل يجوز لكل أحدٍ منهم أن يعمل في عبادةٍ أو معاملة على أي مذهب شاء، لكن بعد استيفاء جميع الشروط التي يشترطها ذلك المذهب، وإلا كان عمله باطلاً بإجماع كما سنذكره. ولا يلزمه اعتقاد أرجحية ذلك المذهب الذي قلده، والأولى اعتقاد الأرجحية للخروج من الخلاف في ذلك كما تقدم بيانه، ومتى عمل عبادة أو معاملة ملفقة أخذ لها من كل مذهب قولاً بقول به صاحب المذهب الآخر فقد خرج عن المذاهب الأربعة، واخترع له مذهباً خاصاً فعبادته باطلة، ومعاملته غير صحيحة وهو متلاعب في الدين، وغير عامل بمذهب من مذاهب المجتهدين، لأنه لو سأل كل مفت من أهل المذاهب الأربعة فلا يسوغ له أن يفتي بصحة تلك العبادة أو المعاملة لفقد شروط صحتها عنده فأين قولهم: " العامي لا مذهب له " يعني معيناً كما ذكرنا، وإنما مذهبه فتوى مفتيه، فأي فقيه أفتاه جاز له العمل بقوله، كما صرح به في البحر وغيره في قضاء الفوائت. وأي مفتٍ شافعي يفتي بصحة الوضوء من غير نية ولا ترتيب؟ ! وأي مالكي يفتي بصحة الوضوء من غير ذلك ولا موالاة؟ ! وأي حنبلي يفتي بصحة الوضوء من غير تسمية ! فلو توضأ رجل من ماء القلتين المذكور من غير خلاف فلو حكم هو بصحته وهو مقلد لكان مخترعاً مذهباً خامساً كما ذكرنا، وذلك باطل حتى ولو كان مجتهداً لا يسوغ له إحداث قولٍ خامس يخالف ما اجتمعت عليه الأئمة الأربعة على ما سنذكره، فكيف وهو مقلد؟ ! وقد صرح الأصوليون في مبحث الإجماع. بذلك قال في التوضيح شرح التنقيح لصدر الشريعة: إذا اختلف الصحابة في قولين يكون إجماعاً على نفي قول ثالث عندنا، وأما في غير الصحابة فكذا عند بعض مشايخنا وبعضهم خصوا ذلك بالصحابة، إذ لا يجوز أن يُظن بهم الجهل أصلاً، نظيره أنهم:

    اختلفوا في عدة حامل توفي عنها زوجها، فعند البعض تعتد بأبعد الأجلين، وعند البعض بوضع الحمل. فالاكتفاء بالأشهر قبل وضع الحمل قول ثالث لم يقل به أحد. واختلفوا في فسخ النكاح بالعيوب الخمسة، فعند البعض لا فسخ في شيء منها، وعند البعض حق الفسخ ثابت في كل منها. فالفسخ في البعض دون البعض قول ثالث، لم يقل به أحد. واختلفوا في الخارج من السبيلين، فعند البعض غسل المخرج فقط واجب، وعند البعض غسل الأعضاء الأربعة فقط واجب. فشمول العدم أو شمول الوجود ثالث لم يقل به أحد. وأيضاً الخروج من غير السبيلين ناقض عندنا، لامس المرأة، وعند الشافعي رحمه الله تعالى: المس ناقض لا الخروج، فشمول الوجود أو شمول العدم لم يقل به أحد.

    وقال بعض المتأخرين: الحق هو التفضيل، وهو أن القول الثالث إن استلزم إبطال ما أجمعوا عليه لم يجز إحداثه، وإلا جاز.

    مثال الأول: الصورة الأولى فإن الاكتفاء بالأشهر قبل الوضع منتف إجماعاً، إما لأن الواجب أبعد الأجلين، وإما لأن الواجب وضع الحمل، فهذا يسمى إجماعاً مركباً، فآية الاشتراك وهو عدم الاكتفاء بالأشهر مجمعٌ عليه.

    ومثال الثاني: الأمثلة الأخيرة، وأنه ليس في كل صورة إلا مخالفة مذهب واحد لا مخالفة الإجماع، ولو كان مثل هذا مردوداً يلزم كل مجتهد وافق صحابياً أو مجتهداً في مسألة يلزمه أن يوافقه في جميع المسائل، وهذا باطل إجماعاً. ثم بسط الكلام في ذلك، ثم قال: فإن من احتجم ومس المرأة لا تجوز صلاته بالإجماع. أما عندما فللاحتجام، وأما عند الشافعي رضي الله تعالى عنه فللمس. فالذي يخطر ببالي أنه لا يقال: "إن هذه الصلاة باطلة بالإجماع" لأن الحكم عندنا أنها لا تجوز للاحتجام، والحكم عند الشافعي رحمه الله تعالى أنها لا تجوز للمس، وكل من الحكمين منفصل عن الآخر، لا تعلق لأحدهما بالآخر، فيمكن أن أبا حنيفة t يكون مخطئاً في الخروج ومصيباً في المس، والشافعي رحمه الله تعالى يكون مخطئاً في المس مصيباً في الخروج، إذ ليس من ضرورة كونه مخطئاً في أحدهما أن يكون مخطئاً في الآخر، إلى آخر ما بسطه من الكلام.

    وقال السعد التفتازاني رحمه الله تعالى في التلويح حاشية التوضيح وإنما قال: فالذي يخطر ببالي، لأن الظاهر أنه لا خلاف في بطلان الصلاة، وإنما الخلاف في جهة البطلان فالجهتان متحدان لا تغاير بينهما أصلاً وإنما التغاير في العلة. انتهى.

    وقال في مرآة الأصول للمنلا خسرو – رحمه الله تعالى –: أهل العصر الأول إذا اختلفوا على قولين يكون إجماعاً على نفي قول ثالث، وبعضهم خصوا لخلاف بالصحابة، وإنما يستقيم عند من حصر الإجماع على الصحابة، فالأصح الإطلاق انتهى.

    وقال المحلي رحمه الله تعالى في شرح جمع الجوامع، في بحث الإجماع: وخرقه بالمخالفة حرام للتوعد عليه حيث توعد على اتباع غير سبيل المؤمنين في الآية فعلم تحريم قول ثالث في مسألة اختلف أهل عصر فيها على قولين وإحداث التفصيل بين مسألتين لم يفصل بينهما أهل عصر إن خرقاه، أي إن خرق الثالث، والتفصيل الإجماع بأن خالفا ما اتفق عليه أهل العصر بخلاف ما إذا لم يخرقاه، وقيل: هما خارقان مطلقاً أي أبداً لأن الاختلاف على قولين يستلزم الاتفاق على امتناع العدول عنهما. وعدم التفضيل بين مسألتين يستلزم الاتفاق على امتناعه وتمامه مفصل هناك.

    إذا علمت هذا لم تتوقف في بطلان العمل الملفق من مذهبين أو ثلاثة أو أربعة، إذ التلفيق في مثل ذلك خرق للإجماع، فلا يجوز للمجتهد، فما بالك بالمقلد القاصر؟!.

    وإن أردت صريح النقول من كتب الفروع فأنا أذكر لك ما يحضرني من ذلك. قال الشيخ قاسم رحمه الله تعالى في "تصحيح القدوري": قال الإمام الحسن الخطيب في كتاب "الفتاوى": المفتي على مذهب إذا أفتى بكون الشيء كذا على مذهب إمام ليس له أن يقلد غيره، ويفتي بخلافه لأنه محض تشهي.

    وقال أيضاً: إنه بالتزامه مذهب إمام يكلف به ما لم يظهر له بخلاف المجتهد، حيث ينتقل من إمارة إلى إمارة. ووجه هذا مسألة الأصول التي حكى فيها الاتفاق وقالوا لا يصح التقليد في شيء مركب من اجتهادين مختلفين بالإجماع، ومثلوا له بما إذا توضأ ومسح بعض شعره ثم صلى بنجاسة الكلب.

    قال في كتاب "توفيق الحكام على غوامض الأحكام": بطلت بالإجماع. وقال فيه: "والحكم الملفق باطل بإجماع المسلمين. انتهى". وقال الشيخ محمد البغدادي الحنفي رحمه الله تعالى في رسالة التقليد:

    اعلم أن الصحة تقليد المذهب المخالف بشروطات:

    منها: ما ذكره ابن الهمام في تحريره أنه إن عمل المقلد بحكم من أحكام مذهبه الذي تقلده لا يرجع عنه، ويقلد مذهباً آخر وفي غير ما عمل به له أن يقلد غيره من المجتهدين.

    الثاني: ما نقله ابن الهمام عن القرافي واعتمد عليه في تحريره أن لا يترتب على تقليد من قلده، أولاً ما يجتمع على بطلانه كلا المذهبين فمن قلد الشافعي رحمه الله تعالى في عدم فرضية الدلك للأعضاء المغسولة في الوضوء والغسل، ومالكاً في عدم نقض اللمس بلا شهوة للوضوء، فتوضأ ولمس بلا شهوة وصلى. إن كان الوضوء بذلك صحت صلاته عن مالك والشافعي انتهى كلام ابن الهمام مع شرحه.

    الثالث: أن لا يتتبع الرخص ويلتقطها، وهذا الشرط اعتبره الإمام النووي وغيره، لكن ابن الهمام لم يعتبره ولم يلتفت إلهي، وبعضهم شرط أن لا يكون ما قلده مخالفاً لصريح الكتاب والسنة وإن قال به مجتهد. وهذا الشرط أيضاً لما لم يكن معتبراً عند المحققين لم يذكره ابن الهمام لا رداً ولا قبولاً.

    ثم ذكر الشيخ محمد البغدادي رحمه الله تعالى في أحوال المقلد: أن من أحواله أن لا يجتمع من تقليده حالة مركبة ممتنعة بالإجماع كما ذكره ابن الهمام بقوله: "أن لا يترتب عليه ما يجتمع على بطلانه كالمذهبين" فهذه الصورة مما يمنع التقليد فيها عند الجمهور، مثاله: كمن صلى بخروج الدم من غير السبيلين تقليداً للإمام الشافعي رحمه الله تعالى والمقلد حنفي المذهب ولم يزل النجاسة القليلة عن بدنه أو ثوبه بناءً على مذهبه، فصلاته حينئذ باطلة بالاتفاق، أما على مذهبه فلخروج النجاسة من البدن، وأما على مذهب من قلده فقليل النجاسة مانعة عند الشافعي رحمه الله تعالى. وذكر صاحب العقد الفريد عن الإمام الإسنوي من الشافعية أنه قال: " إذا نحك بلا ولي تقليداً لأبي حنيفة رحمه الله تعالى، أو بلا شهود تقليداً للإمام مالك رحمه الله تعالى ووطئ لا يحد ولو نكح بلا ولي ولا شهود أيضاً تقليداً لهما حد كما قاله الرافعي. لأن الإمامين أبا حنيفة ومالكاً قد اتفقا على البطلان. " انتهى كلامه وهذا الشرط أصعب الشروط على العوام ولهذا قالوا لا يصح للعامي التقليد إلا بالاستفتاء عن خصوص ما أراد تقليده. انتهى كلام الشيخ محمد البغدادي رحمه الله تعالى.

    وقال الشيخ الرملي الشافعي رحمه الله تعالى في شرح الوقاية: "إذا دونت المذاهب وانتقل المقلد من مذهب إلى مذهب جاز ولو قلد مجتهدا في مسائل أخرى جاز، لكن لا يتبع الرخص، وإذا استفتى فأفتاه مفت لزمه الأخذ بقوله إن لم يكن هناك مفت آخر وإلا فلا إذ له سؤال غيره. وشرط تقليد مذهب الغير أن لا يكون موقعاً في أمر يجتمع على إبطاله الإمام الذي كان على مذهبه والإمام الذي انتقل إلى مذهبه فمن قلد مالكاً مثلاً في عدم النقض باللمس الخالي عن الشهوة فلا بد أن يدلك بدنه ويمسح جميع رأسه.انتهى".



    ونقل الشيخ عبدالرؤوف المناوي الشافعي رحمه الله في شرح الجامع الصغير عن السبكي رحمه الله تعالى: " أن التقليد إن اجتمعت فيه حقيقة مركبة ممتنعة بالإجماع يمتنع. انتهى."



    ونقل والدي رحمه الله تعالى في شرحه على شرح الدرر عن العقد الفريد للشرنبلالي رحمه الله تعالى أنه قال - بعد ذكره النقل العديدة - : "والعبارات المعتمدة المفيدة فتحصل لنا مما ذكرناه أنله ليس على الإنسان التزام مذهب معين، وأنه يجوز له العمل بما يخالف ما علمه على مذهبه مقلداً غير إمامه،مستجمعاً شروطه، ويعمل بأمرين متضادين في حادثتين لا تعلق لواحدة منهما بالأخرى،وليس له إبطال عين ما فعله بتقليد إمام آخر، لأن إمضاء الفعل كإمضاء قضاء القاضي لا ينقض ". انتهى. فانظر قوله: "مستجمعاً شروطه" أي: شروط ذلك الإمام الذي قلده وهو قاض بعدم صحة التلفيق.



    وقال الشيخ عبدالرحمن العمادي رحمه الله تعالى في مقدمته: " اعلم أنه يجوز للحنفي تقليد غير إمامه من الأئمة الثلاثة رضي الله عنهم فيما تدعو إليه الضرورة بشرط أن يلتزم جميع ما يوجبه ذلك الإمام في ذلك، مثلاً إذا قلد الشافعي في الوضوء من القلتين فعليه أن يراعي النية والترتيب في الوضوء، والفاتحة وتعديل الأركان في الصلاة بذلك الوضوء وإلا كانت الصلاة باطلة إجماعاً فافهم. انتهى. وإن كان قوله: "فيما تدعو إليه الضرورة" – غير لازم لما عرفت من قبل عدم الإنسان لمذهب معين على الراجح. وقد تعقبت ذلك في شرحي لمقدمة العمادي رحمة الله تعالى وبسطت الكلام فيه.



    ونقل المناوي رحمه الله تعالى في شرح الجامع الصغير للأسيوطي عن المالكية أنه قال في التنقيح للقرافي نقلاً عن الزناتي: "أن التقليد جائز إذا لم يجمع بينهما على وجه يخالف الإجماع كمن تزوج بلا صداق ولا ولي ولا شهود فإنه لم يقل به أحد". انتهى.

    إذا علمت هذا كله ظهر لك بطلان ما ذهب إليه الشيخ محمد بن الفروخ المكي في رسالته من صحة التلفيق، رأياً منه، وقد استدل عليه بعبارة وقعت في تحرير ابن الهمام ليس معناها ذلك فقال: قد أشار إلى عدم منعه المحقق في التحرير، وأنه لم يدر ما يمنع منه. مع أن عبارة ابن الهمام ليس فيها ذلك، وقد نقلها الشيخ محمد البغدادي رحمه الله تعالى في رسالته عن شرح الهداية المسمى " فتح القدر "، ونقلها أيضاً المناوي الشافعي رحمه الله تعالى عن فتح القدير وهي قوله: "التنقل من مذهب إلى مذهب باجتهاد وبرهان إثم يستوجب التغرير، وبلا اجتهاد وبرهان أولى. ثم حقيقة الانتقال إنما تتحقق في مسألة خاصة قلد فيها وعمل بها وإلا فقوله: "قلدت أبا حنيفة فيا أفتى به من المسائل" مثلاً، و "التزمت العمل به على الإجمال" – وهو لا يعرف صورها – ليس حقيقة التقليد بل تعليق له، وبه فإن أراد بهذا الالتزام فلا دليل على وجوب اتباع المجتهد بإلزامه نفسه بذلك قولاً أو نية شرعاً بل الدليل اقتضى العمل بقول المجتهد فيما يحتاج إليه، لقوله تعالى: { فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون } والسؤال إنما يتحقق عند طلب الحكم، وغالب الظن أن مثل هذه الإلزامات من المشايخ لكف الناس عن تتبع الرخص وإلا فأخذ العامي في كل مسألة بقول مجتهد أخذ عليه، وأنا لا أدري ما يمنع هذا من النقل والعقل فكون الإنسان يتتبع ما هو أخف على نفسه من قول مجتهد مسوغ له الاجتهاد ما علمت من الشرع ذمة عليه وكان صلى الله عليه وسلم يحب ما خف على أمته". إلى هنا كلام ابن الهمام.



    فانظر كيف فهم منه هذا القاصر الفهم أن مراده صحة التلفيق؛ فأخذ العامي في كل مسألة بقول مجتهد أخف عليه، فإن المراد بالمسألة تمام الحكم لا بعضه لأنه في مقابلة التزام مذهب معين، وقد صرح في كتابه التحرير المذكور بمنع التلفيق،فكيف الإشارة تعارض الصريح على فرض صحتها؟ واستدل أيضاً بعبارة وقعت لابن نجيم رحمه الله تعالى في رسالة له عملها في بيع الوقف لا على وجه الاستبدال، وعبارته: قال مولانا قاضي خان في فتاواه: "ولو باع أرض الوقف بثمن غبن فاحش لا يجوز بيعه في قول أبي يوسف وهلال لأن القيم بمنزلة الواقف فلا يملك البيع بغبن فاحش ولو كان أبو حنيفة يجوز الوقف بشرط الاستبدال لجاز بيع القيم إذا كان بغبن فاحش كالوكيل بالبيع". انتهى كلام قاضي خان. قال ابن نجيم رحمه الله تعالى: ويمكن أن تؤخذ صحة الاستبدال بقول أبي يوسف وصحة البيع بغبن فاحش بقول أبي حنيفة بناءً على جواز التلفيق في الحكم من قولين.



    قال في الفتاوي البزازية من كتاب الصلاة من فصل زلة القارئ: ومن علماء خوارزم من اختار عدم الفساد بالخطأ في القراءة أخذ بمذهب الإمام الشافعي فقيل له: مذهبه في غير الفاتحة، قال: اخترت من مذهبه الإطلاق وترك القيد لما تقرر في كلام محمد رحمه الله تعالى: أن المجتهد يتبع الدليل لا القائل حتى صح القضاء بصحة النكاح بعبارة النساء على الغائب، انتهى كلام البزازية.

    وما وقع في آخر تحرير ابن الهمام من منع التلفيق، إنما عزاه لبعض المتأخرين وليس هذا المذهب. انتهت عبارة ابن نجيم رحمه الله تعالى.

    فأما نقله عن قاضي خان جواز التلفيق منقول أبي حنيفة وأبي يوسف فهو تلفيق من مذهب واحد إذ أصول القولين واحدة على أن مسألة البيع بغبن فاحش لا يصح في قول أبي يوسف وهلال لأن القيم كالوكيل ولو أجاز أبو حنيفة الوقف بشرط الاستبدال لأجاز البيع بالغبن الفاحش كما هو مذهبه في بيع الوكيل به، فأين التلفيق في هذا؟

    وأما واقعة بعض علماء خوارزم في تلفيقه المذكور فهي مشروطة بالاجتهاد كما صرح به بعد ذاك بقوله لما تقرر من كلام محمد: " أن المجتهد يتبع الدليل " أي دليل المجتهد الآخر الذي أراد موافقته في ذلك الحكم لا القائل أن لا يتبع قول المجتهد الآخر لأن المجتهد لا يسوغ له اتباع مجتهد آخر. ومن هذا الباب ما ينقل عن الإمام الشافعي رحمه الله تعالى: أنه ترك قنوت الفجر عند [ قبر ] أبي حنيفة رحمه الله تعالى يوم زيارته له في بغداد فإنه محمول على اجتهاده ذلك اليوم فقط في دليل أبي حنيفة رحمه الله تعالى في نسخ قنوت الفجر لرجحان دليله عنده، ثم رجح بعده إلى اجتهاده، ولا يقاس المقلد على المجتهد في هذا الأمر عند كل واقعة وإن جاز للمقلد اتباع المجتهد في هذا الواقعة بعينها إن دام المجتهد فيها على ما ذهب إليه من الموافقة للمجتهد الآخر وإن رجع بطل الحكم بصحة ذلك، وهذا كله على القول بجواز الاجتهاد المخالف للإجماع على قولين أو ثلاثة كما سبق بيانه.

    وأما قول ابن نجيم رحمه الله تعالى: "وليس هذا المذهب". فيحتمل رجوعه إلى الغير ولبعض المتأخرين لقربه، ويحتمل رجوعه إلى منع التلفيق فيكون مراده أن منع التلفيق مطلقاً المتبادر من عبارة ابن الهمام سواء كان في المجتهد وغيره ومن مذهب ومن مذاهب ليس هو المذهب بل يسوغ الحكم بذلك للقاضي المجتهد ولو على قول لا سيما من مذهب واحد كما هي مسألة المبرهن عليها قبل ذلك على أن كلام ابن نجيم هذا وإن فرضنا صحة دلالته على جواز التلفيق مطلقاً لا يناقض ما سبق التصريح به من عبارات كتب الأصول والفروع في منع التلفيق بالإجماع وأين الصريح من الإشارة؟ ولابن نجيم رحمه الله تعالى – في كتابه "شرح الكنز" – صريحة في اشتراط المراعاة من الإمام لصحة الاقتداء بالمخالف فكيف يكن قائلاً في عبارة هذه بصحة التلفيق مطلقاً من مجتهد ومقلد.

    وقد استدل مصنف الرسالة أيضاً بواقعة أبي يوسف المذكورة فيما سبق على صحة التلفيق قائلاً فقد حصل التلفيق منه وهو أوفى حجةً لنا، ومراده أن أبا يوسف صلى على مذهبه وإنما قلد في خصوص الوضوء من القلتين وعلى فرض تسليم التلفيق في ذلك فإن المجتهد له أن يجتهد في دليل آخر كما ذكرنا ولا كذلك المقلد على أن صلاة أبي يوسف على مذهب ليست فاسدة على مذهب غيره حتى يكون ذلك تلفيقاً.

    والحاصل أن جميع هذه الوجوه الذي استدل بها هذا القائل بالتلفيق الخارق للإجماع المعتبر بذلك فاسدة لا اعتداد بها ولا يجوز اعتبار ذلك منه لمخالفته للصريح في منع التلفيق كما ذكرنا وإذا كان المجتهد لا يسوغ التلفيق إذ أدى اجتهاده إليه على حسب ما قدمناه فكيف بالمقلد القاصر ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.



    هذا آخر ما قصدناه في بيان مسألة التقليد والتلفيق، والله الهادي إلى سواء الطريق، لا رب غيره، ولا خير إلا خيره وقد فرغنا من تسويدها نهار الأربعاء رابع عشر جمادى الثاني، سنة خمس وثلاثين ومئة وألف، أحسن الله ختامها.

      الوقت/التاريخ الآن هو الجمعة أبريل 26, 2024 3:06 am