أبجدية التصوف
للرائد العارف بالله تعالى
الشيخ محمد زكى إبراهيم
رائد العشيرة المحمدية
السؤال الأول
1. ما هو المقصود بالتصوف الإسلامى ؟
1. وهل مورس هذا التصوف فى عهد رسول الله e ؟
2. ولماذا يختلفون فى تعريف التصوف ؟
3. ولماذا يختلفون فى تحديد مصادره ؟
* * *
الجواب :
1. المقصود بالتصوف الإسلامى ، يعرف من تعريفاتة كثيرة :
التى تتلخص كلها فى أن :
" التصوف هو : التخلى عن كل دَنِى ، والتحلى بكلى سَنى "
سلوكاً إلى مراتب القرب والوصول ، فهو إعادة بناء الإنسان ، وربطه بمولاه فى كل فكر ، وقول ، وعمل ، ونية ، وفى كل موقع من مواقع الإنسانية فى الحياة العامة " .
ويمكن تلخيص هذا التعريف فى كلمة واحدة ، هى : ( التقوى ) فى أرقى مستويات الحسية ،والمعنوية .
فالتقوى عقيدة ، وخٌلق ، فهى معاملة الله بحسن العبادة ، ومعاملة العبادة بحسن الخلق ، وهذا الاعتبار هو ما نزل به الوحى على كل نبى ، وعليه تدور حقوق الإنسانية الرفيعة فى الإسلام .
وروح التقوى هو ( التزكى ) و ] قد افلح من تزكى [ " سورة الأعلى ، الآية : 14 .
و ] قد أفلح من زكاها [ " سورة الشمس ، الآية : 9 ".
2. وبهذا المعنى تستطيع أن تستيقن بأن التصوف قد مُورس فعلاً فى العهد النبوى ، والصحابة ، والتابعين ، ومن بعدهم .
وقد امتاز التصوف مثلاً بالدعوة ، والجهاد ، والخلق ، والذكر ،والفكر ، والزهد فى الفضول ، وكلها من مكونات التقوى ( أو التزكى ) وبهذا يكون التصوف مما جاء به الوحى ، ومما نزل به القرآن ، ومما حثت عليه السنة ، فهو مقام ( الإحسان ) فيها ، كما أنه مقام التقوى فى القرآن والإحسان فى الحديث : مقامُ الربانية الإسلامية ، يقول تعالى : ] كونوا ربانيين بكا كنتم تعلمون الكتاب بما كنتم تدرسون [ " سورة آل عمران ، الآية : 79 .
هذا هو التصوف الذى نعرفه ، فإذا كان هناك تصوف يخاف ذلك ، فلا شأن لنا به ، ووزره على أهله ، ونحن لا نُسأل عنهم فــ " كل امرئ بما كسب رهين " والمتصوف شئ ، والوفى شئ آخر .
3. أما الاختلاف فى تعريف التصوف، فهو راجع إلى منازل الرجال فى معارج السلوك ، فكل واحد منهم ترجم أساسه فى مقامه ، وهو لا يتعارض أبداً مقام سواه ؛ فإن الحقيقة واحدة ، وهى كالبستان الجامع ، كلٌ سالك وقف تحت شجرة منها فوصفها ، ولم يقل إنه ليس بالبستان شجرٌ سواها ومهما اختلفت التعريفات ، فإنها تلتقى عند رتبة من التزكى والتقوى : أى الربانية الإسلامية ، أى ( التصوف ) على طريق الهجرة إلى الله ] ففروا إلى الله إنى لكم منه نذير مبين [ " سورة الذرايات ، الآية 50 – وقال : ] إنى مهاجر إلى ربى [ " سورة العنكبوت ، الآية : 26 " .
فالواقع أنها جميعاً تعريف واحد ، يُكمل بعضه بعضاً .
4. أما الاختلاف فى تحديد مصادر التصوف ، فدسيسة من دسائس أعداء الله ؛ فالتصوف كما قدمنا " ربانية الإسلام " ، فهو عبادة ، وخلق ، ودعوة ، واحتياط ، وأخذ بالعزائم ، واعتصام بالقيم الرفيعة ، فمن ذا الذى يقول : إنه هذه المعانى ليست من صميم الإسلام ؟
إنها مغالطات ، أو أغالط نظروا فيها إلى هذا الركام للدخول على التصوف من المذاهب الشاذة ، أو الضالة ، ولم ينظروا إلى حقيقة التصوف .
والحكم على الشىء بالدخول عليه / غلطٌ أو مغالطة .
والحكم على المجموع بتصرف أفراد انتسبوا إليه صدقاً أو كذباً : ظلم مبين ..
وهل من المعقول أن يترك المسلمون إسلامهم مثلاً لشذوذ طائفة منهم تشرب الخمر ، أو تمارس الزنا ، أو تحلل ما حرم الله ؟
وهل عملُ هؤلاء يكون دليلاً على ان الإسلام ليس من عند الله ؟! .... شيئاً من التدبر أيها الناس !!! .
* * *
السؤال الثانى
1. من هو الصوفى ؟
2. وبماذا يمتاز عن عامة المسلمين ؟
3. وهل هناك فرق بينه وبين التقى ، أو المؤمن ، أو المسلم ، أو الصديق ؟
4. وإذا لم يكن هناك فرق ، فلماذا الإصرار على استخدام الاصطلاح ؟
الجواب :
1. تستطيع أن تعرف الصوفى الحق ، بأنه المسلم النموذجى ، فقد اجمع كافة أئمة التصوف على أن التصوف هو الكتاب والسنة ، فى نقاء وسماحة واحتياط ، وشرطه أئمة التصوف فى مريديها أخذاً من قوله تعالى : ] ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون [ " سورى آل عمران ، الآية 79 "
والعلم هنا أولاً : علم الدين بدعامتيه " الكتاب والسنة " ، ثم هما بدورهما منبع كل علم إنسانى نافع ، على مستوى كافة الحضارات ، وتقدم البشرية ، مقتضى تطور الحياة .
فالتصوف إذن هو : ربانية الإسلام الجامعة للدين والدنيا ( قال الشيخ شهاب الدين أبو حفص عمر بن محمد السهرودى رحمه الله تعالى : " إن الصوفى من يضع الأشياء فى مواضعها ويدبر الأوقات ، والأحوال كلها بالعلم ، يقيم الخلق مقامهم ، ويقيم أمر الخلق مقامه ، ويَستر ما ينبغى أن يُستر ، ويُظهر ما ينبغى أن يظهر ، ويأتى بالأمور من مواضعها بحضور عقل ، وصحة توحيد ، وكمال معرفة ، ورعاية صدق وإخلاص " { راجع الخطط التوفيقية لــ " على باشا مبارك رحمه الله تعالى جـ1 ص90 طبع المطبعة الأميرية سنة 1305 هـ } .
ومن هنا جاء قول أئمة التصوف ، وفى مقدمتهم ( الجنيد ) : " من لم يَحصل علوم القرآن والحديث ، فليس بصوفى " ،وأجمع على ذلك كل ائمة التصوف ، من قبل ومن بعد ، وتستطيع مراجعة نصوص أقوالهم عند القشرى ، والشعرانى ، ومن بينهما ، ومن بعدهما .
2. أما الامتياز عن عامة المسلمين ؛ فالقاعدة الإسلامية هنا هى المل ؛ فإذا عمل الصوفى بمقتضى ما تتمين عليه كقدوة وداعية ، امتاز بمقدار جهده ، شأن كل متخصص وإلا فهو دون كل الناس إذا انحرف أو شذ ، بل إن تجاوز .
فالصوفية يجعلون خلاف الأولى فى مرتبة الحرام اتقاءً للشبهات ، واستبراءٌ للعرض والدين "ومن نصوص الحديث – كما فى الفتح الكبير قوله e :
{ الحلال بٍٍٍِِين والحرام بين ، وبينهما أمور متشبهات لا يعلمها كثير من الناس ، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لعرضه ودينه ، ومن وقع فى الشبهات وقع فى الحرام ، كراع يرعى حول الحمى يوشك أن يواقعه ، ألا وإن لكل مَلك حمى ، ألا وإن حمى الله تعالى فى أرضه محارمه ، الا وإن فى الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله ، وإذا فسدت فسد الجسد كله ، ألا وهى القلب ] . " رواه الأربعة ، والبخارى ومسلم " .
وهم يعرفون كيف أن السلف كانوا يتركون تسعة أعشار الحلال : خوف الوقوع فى الحرام ، فهم يؤمنون بهذا ، ويحاولون العمل به .
والله تعالى يقول : ] ولكل درجات مما عملوا [ " هو من كلام سيدنا عمر " ، فهم يؤمنون بهذا ويحاولون العمل به .
3. أما مسألة الفرق بين الصوفى ، والمسلم ، والمؤمن ، والتقى :
فأن الإسلام شرع لنا تعريف الناس بخصائصهم ، وذكرهم بما يميزهم عن غيرهم ، وقد ذكر الله المهاجرين والأنصار بخصيصتهم : تعريفاً ، وهم مسلمون مؤمنون أتقياء ، وذكر رسول الله e بلالاً الحبشى ، وصهيباً الرومى ، وسلمان الفارسى بما يميزهم من الألقاب ، وهم مسلمون مؤمنون أتقياء .
وذكر القرآن من المسلمين أصنافاً : الخاشعين ، والقانتين ، والتائبين ، والمتصدقين ، والعادين ، والخامدين ، والسائحين وغيرهم ، وكلهم من أهل ] لا إله إلا الله [ .
إذن ، فذكر إنسان بخصيصة عُرف بها عند الناس ، سنة قرآنية ونبوية ، وما دامت هذه الطائفة ، قد عرفت باسم الصوفية لسبب أو لآخر ، فليس بدعاً أن تُدعى بهذا الاسم .
ثم لماذا كل هذه الزوبعة هنا ، ولا تكون هناك زوبعة حين يقال (سلفية) ؟! ـو (أزهرية) ، أو (وهابية) ، أو (شافعية) ، أو (مالكية) ، أو(حنبلية) ؟! وهل كان فيما مضى ( جمعية كذا – أو جماعة كذا ) ؟
أرايت أن الأمر كان أهون من أن يكون سؤالاً ، لولا المذهبية المدمرة ، والتعصب الموبق 1؟
* * *
السؤال الثالث
ما رأيكم فيما يوجه للتصوف من اتهام بأنه يعود فى أصوله الأولى للبوذية ؟ والمجوسية ؟ والرهبانية ... ألخ ؟
الجواب :
قدمت أن التصوف الإسلامى ، هو الربانية ، فهو : إيمان وعمل ، وعبادة ، ودعوة ، وأخلاق ، وبر مطلق . وهو إرادة وجه الله فى كل قول وعمل ، أو نية ، أو فكر ، دنيوى أو أخروى ، وهو التساوى بالبشرية إلى مستوى الإنسانية الرفيعة ، فهو وحى من الوحى ، وهو الدين كل الدين ؛ لأنه بهذا الوصف ( طلب الكمال ) ، وطلبُ الكمال فرض عين ، وهو علاج لأمراض النفوس ، وما من إنسان إلا وهو مبتلى بجانب – قل أو كثر – من النقص الذى نسميه : مرض النفس ، أو الخلقُ ، وإنما جاءت رسالات السماء كلها لعلاج هذه الأمراض النفسية والخلقية أول ما تعالج فى بنى أدم .
ولما كان التصوف قد تخصص فى هذا الجانب ، كان طلبهُ فرضاً شرعياً ، وعقلياً ، وإنسانياً واجتماعياً – حتى يوجد الإنسان السوى الذى به تتسامى الحياة ، وتتحقق خلافة الله على أرضه ، وينتشر الحب والسماحة بين الناس ، وتأخذ الحضارة والتقدمية روحهما الإيمانى المحقُق لمراد الله .
وأدلة ذلك جميعاً مما لا يغيب عن صغار طلبة العلم ، ومما تزخر به علوم الكتاب والسنة .
ولا أعرف أن الكتاب والسنة نقلاً عن المجوسية ، والبوذية والرهبانية شيئاً أبداً ، وأنما هو الغل المورث للتهم الكواذب ، وتضليل خلق الله .
أما إذا كان المراد بالتصوف فى السؤال ، هو هذه الفلسفات الأجنبية عن العقيدة والشريعة ، فهذا باب آخر ، لا علاقة له بتصوف أهل القبلة ، والاحتجاج بهؤلاء علينا فيه تلبيس الحق بالباطل ، ثم إن أخذ البرىء بذنب المجرم : فعلة دنيئة .
على أن الذين اشتهروا بهذا الجانب الفلسفى ، ممن ينسبون إلى التصوف ، عدد محدود ، قد لا يجاوز العشرة ، وسواء قبلت فلسفتهم التأويل والتوجيه – ولو من وجه ضعيف – أو لم تقبل ، فهؤلاء ، وقد أصبحت كتبهم بما فيها من الأفكار أشبه بنواويس الموتى : تُعرض – إذا عُرضت – للزينة ، او التاريخ والعبرة ، فليس بين صوفية عصرنا من يرى رأيهم ، او يذهب مذهبهم ، سواء على ظاهره ، أو على تأويله .
وأين فكرٌ الجماهير من العمال والفلاحين ، وأنصاف المتعلمين ، أو حتى كبار المثقفين ، من كتب هؤلاء وألغازهم وأحاجيهم ؟!
هذا وإذا أمكن الحصول على الكتب وعلى والوقت ، وليس المر كذلك ، ولا شك أن الوقوف عند هذا الجانب فى هذا العصر : نوع من البحث الأثرى ، عن الحفريات المجهولة ، فى سراديب الرموس والأجداث : عصبية وحمية .
والغاضبون على التصوف جميعاً يحتجون بهؤلاء ، وقد انتهى أمر هؤلاء ، فقد كانت مذاهبهم شخصية ، لا تجد طريقها إلى الجماهير ، لحاجتها إلى استعدادات وقابليات ومدارك ، ومنطق لا يوافق لدى الكافة ومؤاخذة الخلف بفعل السلف- لو سلمنا جدلاً بأنهم سلف – أمر بعيد عن العلم والعدل .
والحكم على الكل بذنب البعض – لو سلمنا بهذه البعضية – أمر بعيد عن العلم والعدل .
ولو أننا إخواننا ( خصوم التصوف ) . نظروا إلى الواقع الفعلى . فكافحوا معنا منكرات العصر ومبتدعاته ، من نحو : الطبل ، والزمر ، والرقص ، وتحريف أسماء الله ، وغير ذلك من مناكر المواد ، والتجمعات العامة ، وأخذوا طريق التعاون بالحسنى ، والدعوة بالحكمة ، لكان هذا أدنى إلى الصواب وأهدى سبيلاً ، عند الله والناس .
أما حملتهم على هؤلاء الموتى ، ممن جنحوا إلى الفلسفة ، فاستئساد على الرمم ، وصيال فى غير مجال ، ومبارزة مع الهواء الطلق ؛ فهؤلاء الموتى ، ما يملكون الدفع عن أنفسهم ، وليس من ورائهم وراث يدافع عنهم ، إلا – إذا وجد – لمجرد التصويب وإحسان الظن بأهل القبلة ، أو لمجرد الثقافة والتاريخ .
وهنا أقر بملء الثقة واليقين ، أنًّ كل ما جاء منسوباً إلى التصوف مما يخالف الكتاب والسـنة ، مهما كان مصـدره ، فليس – فيما نرى – من ثمرة الإسـلام بوصـفه مقام ( الإحسان ) الذى سجله الحديث النبوى المشهور ، كما قدمنا ،وهو فى تساميه أبعد من لهو الفلسفة وعبثها ، وإن تأولت .
* * *
السؤال الرابع
ثابت أن المسلمين لم يعرفوا التصوف ، إلا بعد ثلاثة قرون من انتشار الإسلام .
1. فهل يحتاج الإسلام إلى التصوف ؟
2. هل التصوف يضيف جديداً إلى الإسلام ؟
3. وما هو الفرق بين الزهد الإسلامى والتصوف ؟
الجواب :
من الذى قال بأن المسلمين لم يعرفوا التصوف إلا بعد القرون الثلاثة الأولى ؟
هذه مجازفة : ليست بعلمية ، ولا تاريخية ، وليس لها سند ، فإذا كان المراد بأنهم لم يعرفوا لفظ التصوف إلا بعد القرون الثلاثة، فليس هذا بصحيح أيضاً ( هذا الذى قالوه : إنما من كلام ابن تميمة رحمه الله تعالى ، قال فى كتابه " الصوفية والفقراء " :
" الحمد لله : أما لفظ الصوفية ، فإنه لم يكن مشهوراً فى القرون الثلاثة الأولى وإنما اشتهر التكلم به بعد ذلك .
وقد نقل التكلم به من غير واحد من الأئمة والشيوخ كالإمام أحمد بن حنبل ، وأبى سليمان الدرانى ، وغيرهما .
وقد روى عن سيفان الثورى أنه تكلم به ، وبعضهم يذكر ذلك عن الحسن البصرى .
وتنازعوا فى المعنى الذى أضيف إليه الصوفى ؛ فإنه من أسماء النسب كالقراشى ، والمدنى ، وأمثال ذلك ، فقيل : إنه نسبة إلى أهل الصفة ، وهو غلط ؛ لأنه لو كان كذلك لقيل : صُفّى .
وقيل : إنه نسبة إلى الصف المقدم بين يدى الله ، وهو أيضاً غلط ، فإنه لو كان كذلك لقيل : صَفُىٌ .
وقيل : نسبة إلى صوفة بن أُد بن طابخة قبيلة من العرب كان يجاورون بمكة من الزمن القديم ، ينسب إليهم النساك " إلى آخر ما قال) .
فقد اثبت مؤرخو اللغة وغيرهم أن هذا اللفظ كان عندما اشتهروا بالخشونة والرجولة ، ولبس الصوف ، والاستعداد للجهاد ، فإن تصوف المسلمين : دعوة إلى القوة ، والحرية ، والمساواة ، والتكافل ، والإخاء ، والتوحيد ، ومعالى الأمور ، لبناء شخصية المسلم المتكامل ، وكان عهد التدوين قد بدأ بمن كتب الحديث فى عهد رسول e ، وظل ينمو حتى ازدهر فى أواخر القرن الأول ، وأوائل الثانى ، بتحرير الحديث والفقه ، والتفسير ، واللغة ، وما إلى ذلك .
( وقال ايضاً بعد كلام :
" ... والصواب أنهم مجتهدون فى طاعة الله ، كما اجتهد غيرهم من أهل طاعة الله ؛ ففيهم السابق المقرب بحسب اجتهاده ، وفيهم المقتصد الذى هو من أهل اليمين ... " إلى آخر ما قال رحمه الله تعالى ، فراجعه هناك ." )
أما إذا كان المراد بأن مادة التصوف وحقيقته وأصوله وموضوعه لم تُعرف إلا بعد هذه المدة ، فالخطأ هنا يستحيل إلى خطيئة ، فمادة التصوف من حيث العبادة ، والخلق – على أوسع معانى العبادة والخلق – موجود مشهودة فى الكتاب والسنة ، شأن بقية مواد علوم الدين ، فإذا لم يكن لفظ ( التصوف ) موجوداً فى هذا العقد ، فقد كانت العبادات والأخلاق ، وتربية النفس ، ووسائل العفة بالله ، والارتفاع بإنسانية الإنسان ، كل هذه مسجلة فى دين الله ، وهى التصوف ( سماه الناس كذلك ) كل هذه مسجلة فى دين الله ، وهى التصوف ( سماه الناس كذلك ) فالاسم حادث ، والمادة قديمة بقدم الكتاب والسنة ، شأن بقية علوم الدين سواء بسواء .
ولم يكن هذا بدعاً ، فلم يكن فى هذا العهد علم باسـم ( الفقه ) ولا باسم ( الأصول ) ولا باسم ( مصطلح الحديث ) ، ولا غير ذلك من علوم الدين ، ولكن المادة كانت موجودة بين دفتى الكتاب والسنة . فلا دٌونت العلوم ، ورٌسمت القواعد والمصطلحات ، أطلقت الأسماء حسبما رجحته الظروف الواقعية آنذاك .
وإذن ، فلماذا ننكر تسمية التصوف ، ولا ننكر تسمية بقية علوم الدين ، والشأن واحد !؟
ثم لماذا ننكر تسمية (التصوف) ولا ننكر تسمية (التسلف) ؟!
مزيد بيان التصوف :
فى " لسان العرب " لابن منظور يقول : " الصوف : للضأن ، والصوفه أخص ... ثم قال : والصوفة : كل من ولى شيئاً من عمل البيت الحرام وهو الصوفان .... وصوفة ... أبو حى من مضر ، كانوا يخدمون الكعبة فى الجاهلية ن وهى أعظم ما يولى يومئذ " ... ثم قال :
" وصوفة حى من تميم كانوا يجيزون الحاج فى الجاهلية من منى فيكونون أول من يدفع يقال فى الحج : أجيزى صوفة ... " .
وفى هذا المعنى يقول ابن الجوزى : أنبأنا محمد بن ناصر ، عن أبى اسحق إبراهيم بن سعد الحبال ، قال : قال أبو محمد بن سعيد الحافظ ، سألت وليد بن القاسم : إلى أى شئ ينسب الصوفى ؟ فقال : كان قوم على دين إبراهيم فى الجاهلية يقال لهم : صوفة ، انقطعوا إلى الله عز وجل ، وقطنوا الكعبة ، فمن شبه بهم فهم الصوفية .
ثم قال : فهؤلاء المعرفون بصوفة ، ولد الغورث بن مر ، بن أخى تميم .
وفى المعجم الوسيط : " صَوف فلاناً : "جعله من الصوفية ، و"تصوف فلاناً " صار من لصوفية . " والتصوف " طريقة سلوكية قوامها التقشف والتحلى بالفضائل ،لتزكو النفس وتسمو الروح . " وعلم التصوف " مجموعة المبادئ إلى يعتقدها المتصوفة ، والآداب التى يتأدبون بها فى مجتمعاتهم وخلواتهم . و " الصوفى " من يتبع طريقة التصوف " .
وهكذا يتأكد : أن كلمة التوصف عربية قديمة ، فى لغة العرب ، فمن ارجعها إلى (سوفيا) اليونانية ، فقد جهل وانحرف وقلد العميان ، ومن أدعى إنها بدعة محدثة ، كان أشد جهلاً وانحرافاً ؛ فالتصوف أخلاق ، وعبادة ، ودعوة ، وجهاد ن وسلوك ، فهو وحى من الوحى ودين من الدين .
إن كلمة صوفى بعيدة كل البعد – من حيث المعنى – عن التأثر باليونان ، فقد عرفت واستعملت قبل نهاية القرن الثانى الهجرى ، حيث أطلقت على أبو هاشم الكوفى ( المتوفى سنة 150هـ ) ، وإن هذا النوع من التصوف وليد لحركة الإسلام ذاته ، وإن العرب استمدوا أول علمهم بفلسفة أرسطوطاليس " الذى نقل إلى العربية ، من شرح الأفلاطونية الحديثة ، وليس كتاب " أثولوجيا أرسطوطاليس " الذى نقل إلى العربية حوالى 840 م إلا ملخصاً لمذهب الأفلاطونية الحديثة . ويؤيد هذا الاتجاه المحقق من واقع التاريخ " عباس محمود العقاد " فى كتابة " الفلسفة القرآنية " حيث يقول : " لكن التصوف فى الحقيقية غير دخيل فى العقيدة الإسلامية ؛ لأنه – كا فلنا فى كتابنا – " أثر العرب فى الحضارة الأوربية " : مبثوث فى آيات القرآن الكريم ، مستكن بأصوله فى عقائده الصريحة . فالمسلم يقراً فى كتابه أن ] ليس كمثله شئ وهو السميع البصير [ " سورة الشورى ، الآية : 11 " فيقراً خلاصـة العلم الذى يعلمه دارس الحكمة الإلهية ، ويقر فى كــتابه ] ففروا إلى الله إنى لكم منه نذير مبين [ " سورة الذاريات : الأية 50 " فيعلم ما يعلمه تلاميذ المتصوفة البوذيين حين يؤمنون بأن ملابسة العالم تكاد تكون سعادة الروح ، وأن الفرار منه ، أو الفرار إلى الله : هو باب الجنة ... فالمسلم : الذى يقرأ الآيات – هو مطبوع على التصوف والبحث عن خفايا الآثار ودقائق الحكمة .
2. أما : هل الإسلام يحتاج إلى التصوف ؟ فإذا كان الشىء يحتاج إلى نفسه ، جاز أن يقال : إن الإسلام يحتاج إلى التصوف .
الإسلام انقياد ظاهرى ، لا يتم إلا بالانقياد الباطنى ، وإلا كان نفاقاً .
والانقياد الباطنى هو : الإيمان بوصفه عملاً من أعمال القلب ، التى نسميها " التصوف " ، فليس التصوف شيئاً غير الإسلام ، حتى يقال :
إنه يحتاج إليه ، او يستغنى عنه ، إنما التصوف هو ذروة الدين كله ، مقام " الإحسان " : التقوى ، والتزكية ، والربانية ، كما قدمنا ، فهو الغاية والثمرة التى لا تتاح إلا لسالك مريد موفقًّ ذَواق .
وهكذا نجد : أن السؤال الذى يقول : هل التصوف يضيف جديداً إلى الإسلام سؤال غير وارد ، والإجابة عليه واضحة فى الرد على الشطر السابق .
أين هذا السؤال من قوله تعالى : ]اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتى ، ورضيت لكم الإسلام ديناً [ " سورة المائدة ، الآية : 2 "
أن التصوف الحق هو : الإسلام فى اعلى مستوياته .
ومن اعجب العجب من بعضهم أن يكتب أنه يقبل أوصاف الشكر والصب والورع والزهد والذكر والفكر ، من كتب المتمسلفة ، ولا يقبلها من كتب المتصوفة ، تعصباً وغلاً للذين آمنوا
أما الفرق بينه وبين الزهد الإسلامى : فإن الصوفى أكبر من زاهد فى الدنيا ؛ لأن الزاهد إنما يزهد فى الدنيا ، وهى لا شئ ، فالزهد فى الدنيا زهد فى لا شئ ، والزاهد فى ( لا شئ ) غافل أو جاهل ، لكن زهد الصوفى منصب على كل ما يبعده عن الله ، على أى وضع يكون ، أما كل ما يكره بالله ( ولو على المال ) فليس هو بزاهد فيه .
دخل صوغى على أحد الخلفاء ، فحدثه ، فأجازه الخليفة بما لم يكافئ بمثله أحداً قبله : فاعتذر الصوفى عن قبول عطية الخليفة ، فاندهش الخليفة قائلاً له : ما أزهدك !! قال الصوفى : بل أنت أزهد منى يا أمير المؤمنين .
قال : كيف ؟
قال : لأننى أزهد فى الدنيا ، وهى لاشىء ، وأنت تزهد فى الآخر ، وهى كل شئ . "وهو نوع من التبكيت الواضح "
الزهد عند الصوفية : أن تكون الدنيا فى يده ، لا فى قلبه ، لأن الزاهد ( غير الصوفى ) تاجر ، يحرم نفسه من متع الدنيا ، ليعوضها أضعافاً فى الآخرة ، ولا كذلك الصوفى الذى لا يحرم نفسه متعة أحلها الله ، إلا إذا حجبته عن الله .
وهذا أبو الحسن الشاذلى t ، كان صاحب تجارات ومزارع ، وهذا شمس الدين الدمياطى ، كان تاجراً من أثرى علماء الصوفية ، وهو الذى بنى برج دمياط من ماله الخاص فى عهد السلطان الغورى ، وهذا الليث بن سعد ، فقيه مصر ، وأمام زهادها ، كان أثرى أهل عصره . ولم تمنع هؤلاء أموالهم أن يكونوا أزهد الناس فى الدنيا إذا شغلتهم عن الله عز وجل . ولكنهم لم تشغلهم بعد ، بل كانت طريقهم إليه عز وجل !!
وهكذا يتضح أن سحق الشخصية بالزهد المادى ، والتبتل البشرى مما لا تعرفه قوانين التصوف الإسلامى .
وقد كان من أعيان الزاهدين من الصحابة : بلال ، وسلمان ، وأبو ذر ن وتميم الدارى ، أول من جلس فى مسجد رسول الله e أيام عمر يذكر الناس بالله فى يوم الجمعة .
فإنما الزهد فى حده المحدود ، مما جاء عن كثير من الصحابة والتابعين وتابعيهم كما أسلفنا .
وفى صدر هؤلاء جميعاً زهد ( العمرين ) ابن الخطاب ، وابن عبد العزيز بعد سيدنا رسول الله e ؛ فقد كانت الدنيا فى أيديهم ، ولم تكن فى قلوبهم ، فاستغنوا برب الدنيا عن الدنيا وما فيها ومن فيها .
إن الذى يملك هو الذى يملك ، وهو الذى يزهد ، أما الذى لا يملك ، ففى أى شئ يزهد ؟!
* * *
السؤال الخامس
بم تعلل فضيلتكم كون شيوخ التصوف من الفرس ، وأحفاد المجوس ، فى العصر الإسلامى ؟ وكيف تعلل ازدهار التصوف فى القرن السابع ، وما بعده بين العرب والمنتسبين إلى رسول الله e ؟
الجواب :
ليتك يا ولدى لم توجه إلى هذا السؤال العنصرى الذى لا يرضاه الله ولا رسوله ، أو لم تقرأ قوله تعالى : ] إن أكرمكم عند الله أتقاكم [ " سورة الحجرات ، الآية : 13 . وقوله تعالى : ] إنما المؤمنون إخوة [ وقوله e : " لا فضل لأبيض على احمر ، ولعربى على عجمى إلا بالتقوى " " وفى رواية ذكرها ابن كثير فى تفسيره لقوله تعالى : ] إن أكرمكم عند الله أتقاكم : ] يا أيها الناس ، وأن الله تعالى قد أذهب عنكم غبية بالجاهلية وتعظمها بآبائها ، فالناس رجلان : رجل يرتقى كريم على الله ، ورجل فاجر شقى هين على الله [ إلى آخر الحديث الذى رواه أبن أبى حاتم [ " . وقوله e " إن الله أذهب عبية الجاهلية وفخرها بالآباء ؛ مؤمن تقى ، وفاجر شقى ،أنتم لآدم وآدم من تراب . وقوله e ، وقد تمعر وجهه غضباً : " ليدعن أقوام بأقوام إنما هم حطب من حطب جهنم ، أو ليكونن أهون على الله من الجعلان التى تدفع بأنفها النتن " ومن نصوصه : ( لينتهين أقوام يفتخرون بآبائهم الذين ماتوا إنما هم فحم جهنم ، أو ليكونن أهون على الله من الجعل الذى يدهده الخراء بانفه . إن الله أذهب عنكم عبية الجاهلية فخرها بالآباء ؛ إنما هو مؤمن تقى ، وفاجر شقى ، الناس كلهم نو آدم ، وآدم من تراب " رواه الترمذى .
ألم يأتك أن سيدنا رسول الله e ألحق به سيدنا سلمان الفارسى ، فقال : " سلمان منا أهل البيت " – ألم يرسل الله رسوله للناس كافة بشيراً ونذيراً ؟!
إنها حمية الجاهلية ، يرددها ببغاوات البشر ، بلا تدبر ، ولا بينة ، وهل جاء الإسلام للعرب وحدهم ، فاغتصبه منهم غيرهم ، فأصبحوا منبوذين ؟!
لم هذه الشعوبية ، والعنصرية الكريهة ، التى ينكرها الإسلام ، وتنكرها الإنسانية الشريفة ؟!
أليس الإمام البخارى ، والترمذى ، والنسائى ، وابن ماجه ، والطبرانى ، والبيقهى ، والاكثرية الغالبة من رجال الحديث ، كلهم من غير العرب ، وكذلك طائفة من أكبر المفسرين ، كالزمخشرى ، والنيسابورى ، ، وطائفة من أكبر علماء البلاغة ، كالجرجانى ، والتفتازانى !؟ من هو طارق بن زياد ، وموسى بن نصير ، هذان الموليان القائدان الفاتحان ، اللذان أسسا للإسلام مجداً تاريخياً ، لا يمحوه الزمان ؟
من هو ابو حنيفة النعمان ؟ اليس كان من الموالى ، ولولاه ما كان لبنى تيم الله ذكر ولا فخر " أبو حنيفة من الأفغان ، قالوا من كابل "
يا ولدى : إمام مصر الليث بن سعد ، أصله من ( أصبهان ) ، أمام أهل السنة ، احمد بن حنبل ، أصله من ( مرو ) والإمام المفسر الطبرى ، أصله من ( طبرستان ) ، والشعبى علامة التابعين وغمامهم ، كانت أمه من ( جلولاء ) ، والحسن البصرى ، الكوكب الفرد ، ، كان أبوه من ( ميسان ) .
وهذه علاّمة اللغة سيبويه ، فارسى الأصل ، والأمام الكسائى ، فخر اللغة العربية ، أصله من فارس ، وتلميذه الإمام الفراء من الديلم ، ثم أن إبن مسكويه وابن سينا ، والفارابى ، كانوا فرساً أعجمين .
اسمع يا ولدى : فقيه مكة ، عطاء بن رباح ، وفقيه الشام : مكحول ، وفقيه الجزيرة : ميمون بن مهران ، وفقيه خراسان : الضحاك بن مزاحم ، وفقيها البصرة والكوفة : إبراهيم النخعى وابن سيرين ، كل أولئك ليسوا من العرب أصلاً ، ولكنهم برزوا فى جوانب العلم والفكر والمعرفة والدين ؛ كانوا الأئمة بكل ما فى اللفظ من معنى يتجدد ولا يفنى .
إنما يتفاضل الناس بالأحلام " العقول " ، لا بالأرحام ، والناس عند الله سواسية كأسنان المشط ، والله يقول : ] و لا تنسوا الفضل بينكم [ " سورة البقرة : الأية : 237 " ولقد أمر رسول الله e أسامة بن زيد ( مولاه ) على جيش كان فيه أبو بكر وعمر . وعندما أراد عمر أن يستخلف قال : " لو كان سالمُ مولى حذيفة حياً لوليته !! " .
تأمل هذا الموقف الخطير .
ا ولدى ها هام أهل العلم : لا يكادون يذكرون ابن عمر ذكروا معه مولاه نافعاً ، ولا يكاد يذكر أنس بن مالك ، إلا ومعه مولاه ابن سيرين . ولا يكاد يذكر ابن عباس ، إلا ومعه مولاه عكرمة . ولا يكاد يذكر أبو هريرة إلا ومعه مولاه ابن هرمز .... وما اكثر هذه الامثلة فى الإسلام .
لقد\ أطلت عليك – عامداص فى هذا المجال – يا ولدى ؛ فإن هذه الشعوبية هى التى كانت مسمار النعش فى وحدة الإسلام ، والتى انتهت بما يسمى زوراً " النهضة العربية " وهى التى قصمت ظهر الخلافة ، وشتت العرب أوزاعاً وشيعاً ودويلات هزيلة متناحرة باسم العروبة ، والقومية ، التى تٌستخدم الآن بلا وعى ولا تدبر .
ولنرجع إلى سؤالك فى تعليل كون بعض الشيوخ الصوفية اوائل من الفرس ؛ فهؤلاء الناس اجتهدوا فى هذا الجانب ، كما اجتهد غيرهم ممن ذكرنا أسماءهم ، فاستحقوا التقديم والإمامة كمسلمين ، فإذا قيل :
إنهم فعلوا ذلك ليحطموا الإسلام من الداخل ، فهذه قضية ، إذا فرضنا نهوض دليلها فى واحد ، فلن ينهض هذا الدليل فى كل واحد . وفى كل طائفة طيب وخبيث ، والحلال بين والحرام بين ، ولو طبقنا قاعدة سوء الظن بالفرس ، أو بغير العرب عموماً ، لأذهبنا ثلثى علوم الإسلام ، ولكان أول ما ننبذه كتاب البخارى ، ومن والاه ، فهل هذا منطق يقول به إنسان سوى أو قاض منصف ؟ ( ألا يظن أولئك أنهم مبعثون . ليوم عظيم ) " سورة المطففين : الإية 4 ، 5 " أولا يذكرون قول الله تعالى : ] وقالوا ما لنا لا نرى رجالاً كنا نعدهم من الأشرار [ " سورة : ص : الآية 62 ."
إن من إحفاد المجوس : من خدم الإسلام أصدق الخدمات فى الثقافات والعلوم ، والفتوحات والفنون ... وراجع إن شئت من حضرنا ذكرهم وأسلفناه، ومن ورائهم صف شريف طويل معروف ، لم نشر إليه ، وهؤلاء شــأنهم – بالضبط شـأن كبار الصحابة ( وقد كانوا – أى الصحابة – من المشركين ) .
أما تعليل ازدهار التصوف فى القرن السابع ، وما بعده بين العرب ، والمنسوبين بحق أو بباطل إلى رسول الله y فإن هذا السؤال يحتاج إلى تكملة : هى أن هذا الازدهار فى هذا القرن وما قبله ، كان بين العرب وغيرهم ، وكان هذا نتيجة لطبيعة الأشياء ؛ فإن تطور الدعوة الصوفية وامتدادها ، كان قد أهل الكثيرين للزعامة والاجتهاد فى هذا الوقت ، كثمرة للتفاعل ، والتطور فيما سبق هذا الزمان .
فمثلاً : نجد من صوفية القرن السابع أمثال أبى الحسن الشاذلى ، وأحمد البدوى . وابن دقيق العيد ، ومجد الدين القشيرى ، وزكى الدين المنذرى – ونجد من قبلهم فى القرن السادس أمثال أحمد الرفاعى ، وأبى مدين . ونجد فى القرن الخامس ، أمثال الغزالى ، وعبد القادر الجيلانى . وفى الثالث والرابع أمثال : الجنيد ، والشبلى ، ومن قبلهم ذو النون المصرى ، وأبو يزيد . ومن قبلهم الحسن المصرى ، وسفيان الثورى ، ومالك بن دينار ، وإبراهيم بن أدهم والفضيل بن عياض ، وشقيق البلخى ، وحاتم الأصم – بكل ما فى تواريخهم من صدق وكذب ، وأصيل ودخيل .
أضف إلى ذلك موضوع التطور والامتداد ، وقابلية البيئة ، بما كان من الحروب الصيلبيية والتترية والمغولية ، واضطراب عاصمة الخلافة ببغداد ، ومثل هذه الظروف بطبعها تدفع الناس إلى الله تلقائياً ، وقد جربنا نحن أخيراً فى العاشر من رمضان ، فمن أجل هذا وما هو منه ، أو يتعلق به ، كان هذا الازدهار الذى تشير اليه .
***
السؤال السادس
من الاتهامات الموجهة إلى التصوف :
• أنه لا سند له من الكتاب والسنة .
• أنه دخيل على الإسلام .
• أنه يدعو إلى عقائد تتعارض مع عقيدة التوحيد ، كالحلول ، والاتحاد والوحدة .
• أنه يدعو إلى تقديس المشايخ ، والاستعانة بهم فى الشدائد ، واعتقاد أنهم يملكون النفع والضر .
• أنه يدعو إلى التواكل والسلبية .
الجواب :
• أما أن التصوف لا سند له من الكتاب والسنة . فقول ساقط بعد كل ما قدمنا ، فإذا لم يكن التعبد ومكارم الأخلاق ومحاسبة النفس ، والأخذ بالأحوط ، ومجاهدة الهوى والشيطان ، إذا لم يكن كل ذلك له سند من الكتاب والسنة ، فقد جهل الناس الكتاب والسنة ، وفيما ذدمن أدلة مكررة على أن تصوف المسلمين هو عصارة الإسلام وإكسيره ، لا يمترى فى ذلك إلا ذو هوى ، أو من هوى !؟ .
• وبهذا ، وبالذي قدمنا ، يتأكد أن التصوف نابع من العقيدة ، والبيئة الإسلامية جملة وتفصيلاً ، وليس هو بدخيل على دين الله ، إنما الدخيل ، هو هذه الدعوى العصبية المتشنجة ، التى تفوح بالغرض ، والمرض ، وحسبك أنها بضاعة استشراقية ، استعمارية صهيونية ، لا هم لها إلا انتقاض الإسلام .
• أما أن التصوف يدعو إلى عقائد الحلول والاتحاد والوحدة ، فليس هذا هو تصوف المسلمين ، وإنما هو تصوف أجنبي ، أعجمي ، مدسوس والمتهمون به نفر معدود محدود ، انتهى أمرهم ، وليس لهم اليوم تابع ولا وارث ، كما قدمنا ، وأصبح ما نسب إليهم بحق أو بباطل ، سواء قبل التأويل ، أو لم يقبله ، نوعاً من الحفريات التاريخية ، التى لا يتابعها إلا الهواة والمتخصصون ، إن وجد اليوم هواة أو متخصصون فى البحث عن مقابر الأفكار المهملة ، وإلا أصحاب الهوى الذى يعمى ويصم ، ولا اعتبار لأولئك و هؤلاء .
وقد اصبح الكلام اليوم فى هذا الجانب نوعاً من مجرد الإثارة والتشويه ، والعبث وإضاعة الأوقات ، والتشويش على أفاضل الناس وشراء العاجلة بالآجلة .
وإنما يقول الصوفية بنوع معين من الفناء ، فصله الشيخ ابن تيميه فى ( رسائله ) بشئ من الإنصاف ، وأشار إليه الشيخ ابن القيم فى شرحه على كتاب الهروى " كتاب منازل السائرين لشيخ الإسلام : عبدالله بن محمد بن إسماعيل الآنصارى الهروى الحنبلى الصوفى المتوفى سنة 481 هـ ، شرحه أبو بكر بين قيم الجوزية الدمشقى الحنبلى المتوفى سنة 481 هـ ، شرحه أبو بكر بن قيم الجوزية الدمشقى الحنبلى المتوفى سنة 751 هـ ، وسماه " مدراج السالكين "
وشتان ما بين هذا والقول الفاجر بالحلول ، والاتحاد ، والوحدة المنكرة .
• أما أن التصوف يدعو إلى تقديس المشايخ ، والاستعانة بهم فى الشدائد ، واعتقاد أنهم يملكون النفع والضرر : فهذا كلام فه تجاوز ومغالطة ؛ فإن التصوف يدعو إلى احترام الشيخ كوالد روحى ، وهو أدب إسلامى مقرر ، لا خلاف عليه . وفى الحديث الصحيح " ليس منا من لم يوقر كبيرنا ، ويرحم صغيرنا ، ولم يعرف لعالمنا حقه " رواه الترمذى عن ابن عمر ، وأبو يعلى عن أنس ، والعسكرى عن عبادة ابن الصامت ، والقضاعى عن ابن عباس " ، و لا تنس تأديب الله للصحابة مع رسول الله y ، فهو أصل أدب التابع مع المتبوع " راجع سورة الحجرات " .
أما الاستعانة بدعاء الشيخ ، وابتهاله إلى الله فى شدائد ابنائه ، فهو أدب إسلامى ثابت ، يعرفه كل من قراً ( باب الدعاء ) فى كتب المسلمين .
أما أنهم يزعمون أنهم يملكون النفع والضرر ، فالذى يملك هو الله وحده ، وعندما يغضب الشيخ لربه من مخالف لله فيدعو ، فيغضب الله لغضب وليه ، ويستجيب له ، فلا يقال عندئذ إن الشيخ يملك نفعاً ولا ضراً ، إنما هو من باب : "" لئن سألنى لأعطينه ، ولئن استعاذنى لأعيذنه " وم نصوصه ، ما رواه الطبرانى فى معجمه الكبير عن أبى أمامة رسول الله y قال : قال الله تعالى : ( ما يزال عبدى يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه ، فاكون سمعه الذى يسمع به ، وبصره الذى يبصر به ، ولسانه الذى ينطق به ، وقلبه الذى يعقل به ، فإذا دعانى أجبته ، وإذا سألنى أعطيته ، وإن استنصرنى نصرته ، وأحب ما تعبدنى عبدى به : لى " .
والقول بغير هذا إنما هو مسخ للصورة بالمغالاة والإغراق والتنفير .
وإذا كان هناك شئ من ذلك فرضاً جدلياً فهو مما يعالج بالبيان والإرشاد والقول الطيب ، ونحن أمة تحكمها الأمية ، فلا ننكر أن فيها ضلالة وجهالة ، وإنما فى حاجة – أشد الحاجة – إلى النصح والتوجيه بالحكمة البالغة ، والموعظة البليغة .
• بقى القول بأن التصوف يدعو إلى السلبية والتواكل .
التصوف الحق هو : الإسلام ، وليس فى الإسلام سلبية ، ولا تواكل ، وإنما هى أمراض اجتماعية لصقت بالتصوف زوراً وبهتاناً ، وقد كان عبد الله بن المبارك ، يحج عاماً ويجاهد عاماً ، وقد كان شقيق البلخى فارساً مغوراً ، يطلب الموت حتى استشهد فى سبيل الله ، وكذلك كان حاتم الاصل ، مقاتلاً بارعاً ، له فى الجهاد مواقف وكرامات .
وقدمت أن أبا الحسن الشاذلى كان صاحب مزارع وتجارات ، وأن شمس الدين الدمياطى بنى برج دمياط من ماله الخاص ، ومن ربحه من تجارته .
وغذ1 تتبعت آداب المريدين بالصوفية ، لوجدتهم جميعاً يدفعون تلاميذهم إلى العمل والإنتاج ، ويعرفون تماماً كل ما ورد فى هذا الباب عن النبى y ، ثم عن أشياخهم فى الله الذين يؤكدون لهم أنه لا يمكن تحقيق خلافة الله على الأرض بالسلبية والتواكل والاستسلام ، فإذا تغالى أو تطرف واحد ، فليس هو كل واحد .
ولقد ثبت فى الحديث أن بعض الصحابة تغالى بأكثر مما يفعل الرهبان ، والنبى y حىّ ، فنهاهم الرسول y " وحديث نهى النبى y عن التبتل متفق عليه ، ورواه الإمام أحمد ، وأبو دواود عن سعد ، وأحمد الترمذى والنسائى وابن ماجه عن سمرة .
وروى الدرامى عن سعد بن أبى وقاص " رضى الله عنه " أنه قال : " لما كان من أمر عثمان ابن مظعون قال : يا رسول الله : إنى رجل تشق على هذه العزوبة فى المغازى فتأذن لى يا رسول الله فى الخصاء فأختصى ؟
قال : لا ، ولكن عليك يا ابن مظعون بالصيام فإنه مجفرة " .
لإذا انفرد واحد بمغالاته ، فليس هذا بقانون ولا قاعدة فى الجميع ، ولا بعار يؤخذ به سواه .
نزل أحد المريدين على زاوية الشيخ ضيفاً ، فأقراه ثلاثة أيام .
ثم قال له : يا ولدى قد انتهت مدة الضيافة .
فقال المريد : إنما جئت لأتصوف .
فقال الشيخ : " ليس التصوف عندنا أن تصف قدميك وغيرك يمون لك ، ولكن أبداً برغيفيك فأحرزهما ، ثم تصوف ، ثم اجعل منشارك مسبحتك ، واذكر على دقات الفأس والمكوك " .
وقد كانت الألقاب الصوفية تدل على ما يتناولونه من حرف ومهن وصناعات :
فمنهم الدقاق ، والسماك ، والوراق ، والخواص ، وهكذا تعرف أنهم كانوا بحق أمثالاً للمسلم الكامل إيماناً ، وعملاً وإيجابية ، وصلة كبرى بالله .
فالتواكل مرض دخيل على التصوف الصحيح ، يعالجه صوفية العلماء ، كل بأسلوبه .
* * *
السؤال السابع
أولياء الله ، من هم ؟
وهل يجوز تعيين ولى لله بالاسم ؟
وهل الولاية تورث بالأسرة ؟
الجواب :
أولياء الله هم عباده الصالحون ،الذين نسلم عليهم فى كل صلاة كلما قرأنا التشهد ، وعلى رأسهم الأنبياء ، عليهم صلوات الله وسلامه ، ثم يليهم فى ولاية الله أتباعهم ، فأصحاب سفينة نوح ، وأصحاب ميقات موسى ، والحواريون مع عيسى والراشدون ، ومن تبعهم بإحسان ، والائمة من أمة مولانا رسول الله y ، كل أولئك ، ومن على أقدامهم هم الأولياء الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون " .
والشرط فى الولى : الإيمان ، والتقوى ، كما جاء فى الآية ] الذين آمنوا وكانوا يتقون [ " سورة فصلت ، الآية : 18 " ثم ( الصلاحية للنيابة عن حضرة المصطفى y ] والله يتولى الصالحين [ " لقوله تعالى ] وهو يتولى الصالحين [ من سورة الأعراف ، الآية : 196 " .
فالصلاحية بمعنى الصلاحية التى تستوجب كفاية معينة فى الجوانب الثقافية والروحية ،
والذاتية والتعبدية ، حتى يكون العبد أهلاً للتبليغ ، ووارثة النبوة ، وسيادة البشرية ] ولقد كتبنا فى الزبور من بعد الذكر أن الرض يرثها عبادى الصالحون [ " سورة الأنبياء ، الآية : 105 وهنا ينكشـف البون الهائل ، ما بين ( الولاية ) و( الــبلاهة ) ، وما بين ( الولايـة ) و( الاحتراف ) ، وأن الولاية كسب غال بمجهود أغلى أو هى اجتباء بحكم المشيئة الإلهية ، كما جاء بالآية ] الله يجتبى إليه من يشاء ، ويهدى إليه من ينيب [ " سورة : الشورى ، الآية : 13 ) .
وتعيين رجل توافرت فيه الشروط بوصف الولاية ، لا يتعارض مع مبادئ الإسلام – فيما أعرف – وقد وصف علماء الحديث رجالاً بأوصافهم لا حرج .
أما أن الولاية ميراث حتمى : فذلك ما لاعلم للتصوف به .
ولابد هنـا من الإشــارة إلى أننى أتحدث عن ( التـصوف ) ، وهنــاك شئ آخر نسـميه ( المتصوف ) وهذا هو الذى أساء إلى التصوف ، ومازال ، وسوف يبقى كذلك ، ما لم يشأ الله شيئاً ، وما لم ينقذ الله التصوف من التردى الذى يعانيه .
كما أنه لابد من الإشارة إلى أن للولاية معانِ شتى جاءت بها كلمات القرآن والحديث ، تدور حول أولياء الرحمن ، وأولياء الشيطان ، وقد حصرنا الكلام هنا ، فيما نرجح أنه المقصود وفى الحجم المطلوب للصحيفة . ( فنحن هنا للقارئ عناوين ومؤشرات فقط وللبحوث مقام آخر ) .
* * *
السؤال الثامن :
لماذا يبدى الصوفية ولعاً شديداً :
• بإقامة الأضرحة ؟
• وبإقامة الموالد ؟
• والتماس بركة الموتى ؟ ... وما سند ذلك من الكتاب والسنة ؟
الجواب :
• الصوفية لا ييأسون من الموتى ] كما يئس الكفار من أصحاب القبور [ " آخر سورة الممتحنة " وهم يرون أن الموت مرحلة من مراحل السفر الإنسانى الكادح إلى الله ، فالميت عندهم حى حياة برزخية ، وللميت علاقة أكيدة بالحى ، بما صح عن رسول الله y من احاديث ، رد الميث السلام على الزائر ، ومعرفته ، وبتشريع السلام على الميت عند قبره ، ومحادثته y لموتى ( القليب يوم بدر ) ، كما وردت فى عدة أحاديث ثابتة .
ومن القرآن حسبك قوله تعالى ] ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم [ " سورة آل عمران ، الآية : 17 [ - فهناك إذن علاقة مؤصلة بين الحى والميت ، وإلا الدعاء والسلام على الميت موجهاً إلى الأحجار !!
ومعنا رسول الله y لأهل البقيع ، والسلام عليهم وتكليمهم والدعاء لهم .
وللأمام ابن قيم الجوزية ( تلميذ ابن تميمة ، وحواريه ، ووارث دعوته ) له كتاب الروح وقد أثبت فيه كل مذهب الصوفية ، بما لا مزيد عليه ، فى موضوع الحياة بعد الموت ، وعلاقة الأرواح بالأحياء ، ولابن أبى الدنيا فى ذلك تأليف مفيد .
والصوفية يعتقدون : بحق : أن الولى فى الدنيا ولى بخصائصه الروحية ، وماهبه الرهبانية ، والخصائص والمواهب من متعلقات الرواح ، ولا ارتباط لها بالأجسام ألبتة ، فالولى حين يموت ترتفع خصائصه ومواهبه مع روحه إلى برزخه ، ولروحه علاقة كاملة بقبره ؛ بدليل ما قدمنا من السلام عليه وده السلام ... إلخ . ومن هنا جاء تكريم هؤلاء السادة الصالحين من أصحاب القبور .
وقد ثبت أن رسول الله y وضع حجراً على قبر بعض الصحابة ، وهو عثمان بن مظعون رضى الله عنه " فى أسد الغابة : أنه لما توفى سيدنا إبراهيم بن رسول الله y قال: " الحق بالسلف الصالح : عثمان بن مظعون " . وأعلم النبى y قبر عثمان بن مظعون بحجر ، وكان يزوره " ، وقال : " أتعرف به قبر أخى " وكان هذا الحديث ، بعد حديث على t بتوسية القبور المشرفة ، فاستدلوا به على جواز اتخاذ ما يدل على القبر ، وعلى فضل صاحب القبر بلا إغراق ولا مبالغة ، رجاء استمرار زيارته ، والدعاء له والقدوة به ، والصدقة عليه ، وحفظ أثره .
ومن هنا نقل الميت من مكان إلى مكان أفضل ، كما صح فى حديث جابر غيره .
ثم بالغ بعض الناس فى لك – بحسن نية من جانب ، وخوف اندثار القبر من جانب آخر – فاتخذ الآمر بالتطور الصورة التى تراها ، وقالوا : إن الأمر يدور مع علته ، وقد كانت علة تسوية القبور ، والمنع الأول من زياراتها ، هى مخالف الانتكاس والعودة إلى الشرك ، وقد استقر الإيمان والتوحيد فى قلوب الناس ، ( وإن أخطأت أحياناً ألسنتهم ) فلا باس بعمل ما يذكر الصالحين للقدوة والاعتبار ، والقيام بحق صاحب القبر من الزيارة وغيرها
( وقد نقلنا آراء علماء المذاهب فراجعها فيما يأتى ) .
للرائد العارف بالله تعالى
الشيخ محمد زكى إبراهيم
رائد العشيرة المحمدية
السؤال الأول
1. ما هو المقصود بالتصوف الإسلامى ؟
1. وهل مورس هذا التصوف فى عهد رسول الله e ؟
2. ولماذا يختلفون فى تعريف التصوف ؟
3. ولماذا يختلفون فى تحديد مصادره ؟
* * *
الجواب :
1. المقصود بالتصوف الإسلامى ، يعرف من تعريفاتة كثيرة :
التى تتلخص كلها فى أن :
" التصوف هو : التخلى عن كل دَنِى ، والتحلى بكلى سَنى "
سلوكاً إلى مراتب القرب والوصول ، فهو إعادة بناء الإنسان ، وربطه بمولاه فى كل فكر ، وقول ، وعمل ، ونية ، وفى كل موقع من مواقع الإنسانية فى الحياة العامة " .
ويمكن تلخيص هذا التعريف فى كلمة واحدة ، هى : ( التقوى ) فى أرقى مستويات الحسية ،والمعنوية .
فالتقوى عقيدة ، وخٌلق ، فهى معاملة الله بحسن العبادة ، ومعاملة العبادة بحسن الخلق ، وهذا الاعتبار هو ما نزل به الوحى على كل نبى ، وعليه تدور حقوق الإنسانية الرفيعة فى الإسلام .
وروح التقوى هو ( التزكى ) و ] قد افلح من تزكى [ " سورة الأعلى ، الآية : 14 .
و ] قد أفلح من زكاها [ " سورة الشمس ، الآية : 9 ".
2. وبهذا المعنى تستطيع أن تستيقن بأن التصوف قد مُورس فعلاً فى العهد النبوى ، والصحابة ، والتابعين ، ومن بعدهم .
وقد امتاز التصوف مثلاً بالدعوة ، والجهاد ، والخلق ، والذكر ،والفكر ، والزهد فى الفضول ، وكلها من مكونات التقوى ( أو التزكى ) وبهذا يكون التصوف مما جاء به الوحى ، ومما نزل به القرآن ، ومما حثت عليه السنة ، فهو مقام ( الإحسان ) فيها ، كما أنه مقام التقوى فى القرآن والإحسان فى الحديث : مقامُ الربانية الإسلامية ، يقول تعالى : ] كونوا ربانيين بكا كنتم تعلمون الكتاب بما كنتم تدرسون [ " سورة آل عمران ، الآية : 79 .
هذا هو التصوف الذى نعرفه ، فإذا كان هناك تصوف يخاف ذلك ، فلا شأن لنا به ، ووزره على أهله ، ونحن لا نُسأل عنهم فــ " كل امرئ بما كسب رهين " والمتصوف شئ ، والوفى شئ آخر .
3. أما الاختلاف فى تعريف التصوف، فهو راجع إلى منازل الرجال فى معارج السلوك ، فكل واحد منهم ترجم أساسه فى مقامه ، وهو لا يتعارض أبداً مقام سواه ؛ فإن الحقيقة واحدة ، وهى كالبستان الجامع ، كلٌ سالك وقف تحت شجرة منها فوصفها ، ولم يقل إنه ليس بالبستان شجرٌ سواها ومهما اختلفت التعريفات ، فإنها تلتقى عند رتبة من التزكى والتقوى : أى الربانية الإسلامية ، أى ( التصوف ) على طريق الهجرة إلى الله ] ففروا إلى الله إنى لكم منه نذير مبين [ " سورة الذرايات ، الآية 50 – وقال : ] إنى مهاجر إلى ربى [ " سورة العنكبوت ، الآية : 26 " .
فالواقع أنها جميعاً تعريف واحد ، يُكمل بعضه بعضاً .
4. أما الاختلاف فى تحديد مصادر التصوف ، فدسيسة من دسائس أعداء الله ؛ فالتصوف كما قدمنا " ربانية الإسلام " ، فهو عبادة ، وخلق ، ودعوة ، واحتياط ، وأخذ بالعزائم ، واعتصام بالقيم الرفيعة ، فمن ذا الذى يقول : إنه هذه المعانى ليست من صميم الإسلام ؟
إنها مغالطات ، أو أغالط نظروا فيها إلى هذا الركام للدخول على التصوف من المذاهب الشاذة ، أو الضالة ، ولم ينظروا إلى حقيقة التصوف .
والحكم على الشىء بالدخول عليه / غلطٌ أو مغالطة .
والحكم على المجموع بتصرف أفراد انتسبوا إليه صدقاً أو كذباً : ظلم مبين ..
وهل من المعقول أن يترك المسلمون إسلامهم مثلاً لشذوذ طائفة منهم تشرب الخمر ، أو تمارس الزنا ، أو تحلل ما حرم الله ؟
وهل عملُ هؤلاء يكون دليلاً على ان الإسلام ليس من عند الله ؟! .... شيئاً من التدبر أيها الناس !!! .
* * *
السؤال الثانى
1. من هو الصوفى ؟
2. وبماذا يمتاز عن عامة المسلمين ؟
3. وهل هناك فرق بينه وبين التقى ، أو المؤمن ، أو المسلم ، أو الصديق ؟
4. وإذا لم يكن هناك فرق ، فلماذا الإصرار على استخدام الاصطلاح ؟
الجواب :
1. تستطيع أن تعرف الصوفى الحق ، بأنه المسلم النموذجى ، فقد اجمع كافة أئمة التصوف على أن التصوف هو الكتاب والسنة ، فى نقاء وسماحة واحتياط ، وشرطه أئمة التصوف فى مريديها أخذاً من قوله تعالى : ] ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون [ " سورى آل عمران ، الآية 79 "
والعلم هنا أولاً : علم الدين بدعامتيه " الكتاب والسنة " ، ثم هما بدورهما منبع كل علم إنسانى نافع ، على مستوى كافة الحضارات ، وتقدم البشرية ، مقتضى تطور الحياة .
فالتصوف إذن هو : ربانية الإسلام الجامعة للدين والدنيا ( قال الشيخ شهاب الدين أبو حفص عمر بن محمد السهرودى رحمه الله تعالى : " إن الصوفى من يضع الأشياء فى مواضعها ويدبر الأوقات ، والأحوال كلها بالعلم ، يقيم الخلق مقامهم ، ويقيم أمر الخلق مقامه ، ويَستر ما ينبغى أن يُستر ، ويُظهر ما ينبغى أن يظهر ، ويأتى بالأمور من مواضعها بحضور عقل ، وصحة توحيد ، وكمال معرفة ، ورعاية صدق وإخلاص " { راجع الخطط التوفيقية لــ " على باشا مبارك رحمه الله تعالى جـ1 ص90 طبع المطبعة الأميرية سنة 1305 هـ } .
ومن هنا جاء قول أئمة التصوف ، وفى مقدمتهم ( الجنيد ) : " من لم يَحصل علوم القرآن والحديث ، فليس بصوفى " ،وأجمع على ذلك كل ائمة التصوف ، من قبل ومن بعد ، وتستطيع مراجعة نصوص أقوالهم عند القشرى ، والشعرانى ، ومن بينهما ، ومن بعدهما .
2. أما الامتياز عن عامة المسلمين ؛ فالقاعدة الإسلامية هنا هى المل ؛ فإذا عمل الصوفى بمقتضى ما تتمين عليه كقدوة وداعية ، امتاز بمقدار جهده ، شأن كل متخصص وإلا فهو دون كل الناس إذا انحرف أو شذ ، بل إن تجاوز .
فالصوفية يجعلون خلاف الأولى فى مرتبة الحرام اتقاءً للشبهات ، واستبراءٌ للعرض والدين "ومن نصوص الحديث – كما فى الفتح الكبير قوله e :
{ الحلال بٍٍٍِِين والحرام بين ، وبينهما أمور متشبهات لا يعلمها كثير من الناس ، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لعرضه ودينه ، ومن وقع فى الشبهات وقع فى الحرام ، كراع يرعى حول الحمى يوشك أن يواقعه ، ألا وإن لكل مَلك حمى ، ألا وإن حمى الله تعالى فى أرضه محارمه ، الا وإن فى الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله ، وإذا فسدت فسد الجسد كله ، ألا وهى القلب ] . " رواه الأربعة ، والبخارى ومسلم " .
وهم يعرفون كيف أن السلف كانوا يتركون تسعة أعشار الحلال : خوف الوقوع فى الحرام ، فهم يؤمنون بهذا ، ويحاولون العمل به .
والله تعالى يقول : ] ولكل درجات مما عملوا [ " هو من كلام سيدنا عمر " ، فهم يؤمنون بهذا ويحاولون العمل به .
3. أما مسألة الفرق بين الصوفى ، والمسلم ، والمؤمن ، والتقى :
فأن الإسلام شرع لنا تعريف الناس بخصائصهم ، وذكرهم بما يميزهم عن غيرهم ، وقد ذكر الله المهاجرين والأنصار بخصيصتهم : تعريفاً ، وهم مسلمون مؤمنون أتقياء ، وذكر رسول الله e بلالاً الحبشى ، وصهيباً الرومى ، وسلمان الفارسى بما يميزهم من الألقاب ، وهم مسلمون مؤمنون أتقياء .
وذكر القرآن من المسلمين أصنافاً : الخاشعين ، والقانتين ، والتائبين ، والمتصدقين ، والعادين ، والخامدين ، والسائحين وغيرهم ، وكلهم من أهل ] لا إله إلا الله [ .
إذن ، فذكر إنسان بخصيصة عُرف بها عند الناس ، سنة قرآنية ونبوية ، وما دامت هذه الطائفة ، قد عرفت باسم الصوفية لسبب أو لآخر ، فليس بدعاً أن تُدعى بهذا الاسم .
ثم لماذا كل هذه الزوبعة هنا ، ولا تكون هناك زوبعة حين يقال (سلفية) ؟! ـو (أزهرية) ، أو (وهابية) ، أو (شافعية) ، أو (مالكية) ، أو(حنبلية) ؟! وهل كان فيما مضى ( جمعية كذا – أو جماعة كذا ) ؟
أرايت أن الأمر كان أهون من أن يكون سؤالاً ، لولا المذهبية المدمرة ، والتعصب الموبق 1؟
* * *
السؤال الثالث
ما رأيكم فيما يوجه للتصوف من اتهام بأنه يعود فى أصوله الأولى للبوذية ؟ والمجوسية ؟ والرهبانية ... ألخ ؟
الجواب :
قدمت أن التصوف الإسلامى ، هو الربانية ، فهو : إيمان وعمل ، وعبادة ، ودعوة ، وأخلاق ، وبر مطلق . وهو إرادة وجه الله فى كل قول وعمل ، أو نية ، أو فكر ، دنيوى أو أخروى ، وهو التساوى بالبشرية إلى مستوى الإنسانية الرفيعة ، فهو وحى من الوحى ، وهو الدين كل الدين ؛ لأنه بهذا الوصف ( طلب الكمال ) ، وطلبُ الكمال فرض عين ، وهو علاج لأمراض النفوس ، وما من إنسان إلا وهو مبتلى بجانب – قل أو كثر – من النقص الذى نسميه : مرض النفس ، أو الخلقُ ، وإنما جاءت رسالات السماء كلها لعلاج هذه الأمراض النفسية والخلقية أول ما تعالج فى بنى أدم .
ولما كان التصوف قد تخصص فى هذا الجانب ، كان طلبهُ فرضاً شرعياً ، وعقلياً ، وإنسانياً واجتماعياً – حتى يوجد الإنسان السوى الذى به تتسامى الحياة ، وتتحقق خلافة الله على أرضه ، وينتشر الحب والسماحة بين الناس ، وتأخذ الحضارة والتقدمية روحهما الإيمانى المحقُق لمراد الله .
وأدلة ذلك جميعاً مما لا يغيب عن صغار طلبة العلم ، ومما تزخر به علوم الكتاب والسنة .
ولا أعرف أن الكتاب والسنة نقلاً عن المجوسية ، والبوذية والرهبانية شيئاً أبداً ، وأنما هو الغل المورث للتهم الكواذب ، وتضليل خلق الله .
أما إذا كان المراد بالتصوف فى السؤال ، هو هذه الفلسفات الأجنبية عن العقيدة والشريعة ، فهذا باب آخر ، لا علاقة له بتصوف أهل القبلة ، والاحتجاج بهؤلاء علينا فيه تلبيس الحق بالباطل ، ثم إن أخذ البرىء بذنب المجرم : فعلة دنيئة .
على أن الذين اشتهروا بهذا الجانب الفلسفى ، ممن ينسبون إلى التصوف ، عدد محدود ، قد لا يجاوز العشرة ، وسواء قبلت فلسفتهم التأويل والتوجيه – ولو من وجه ضعيف – أو لم تقبل ، فهؤلاء ، وقد أصبحت كتبهم بما فيها من الأفكار أشبه بنواويس الموتى : تُعرض – إذا عُرضت – للزينة ، او التاريخ والعبرة ، فليس بين صوفية عصرنا من يرى رأيهم ، او يذهب مذهبهم ، سواء على ظاهره ، أو على تأويله .
وأين فكرٌ الجماهير من العمال والفلاحين ، وأنصاف المتعلمين ، أو حتى كبار المثقفين ، من كتب هؤلاء وألغازهم وأحاجيهم ؟!
هذا وإذا أمكن الحصول على الكتب وعلى والوقت ، وليس المر كذلك ، ولا شك أن الوقوف عند هذا الجانب فى هذا العصر : نوع من البحث الأثرى ، عن الحفريات المجهولة ، فى سراديب الرموس والأجداث : عصبية وحمية .
والغاضبون على التصوف جميعاً يحتجون بهؤلاء ، وقد انتهى أمر هؤلاء ، فقد كانت مذاهبهم شخصية ، لا تجد طريقها إلى الجماهير ، لحاجتها إلى استعدادات وقابليات ومدارك ، ومنطق لا يوافق لدى الكافة ومؤاخذة الخلف بفعل السلف- لو سلمنا جدلاً بأنهم سلف – أمر بعيد عن العلم والعدل .
والحكم على الكل بذنب البعض – لو سلمنا بهذه البعضية – أمر بعيد عن العلم والعدل .
ولو أننا إخواننا ( خصوم التصوف ) . نظروا إلى الواقع الفعلى . فكافحوا معنا منكرات العصر ومبتدعاته ، من نحو : الطبل ، والزمر ، والرقص ، وتحريف أسماء الله ، وغير ذلك من مناكر المواد ، والتجمعات العامة ، وأخذوا طريق التعاون بالحسنى ، والدعوة بالحكمة ، لكان هذا أدنى إلى الصواب وأهدى سبيلاً ، عند الله والناس .
أما حملتهم على هؤلاء الموتى ، ممن جنحوا إلى الفلسفة ، فاستئساد على الرمم ، وصيال فى غير مجال ، ومبارزة مع الهواء الطلق ؛ فهؤلاء الموتى ، ما يملكون الدفع عن أنفسهم ، وليس من ورائهم وراث يدافع عنهم ، إلا – إذا وجد – لمجرد التصويب وإحسان الظن بأهل القبلة ، أو لمجرد الثقافة والتاريخ .
وهنا أقر بملء الثقة واليقين ، أنًّ كل ما جاء منسوباً إلى التصوف مما يخالف الكتاب والسـنة ، مهما كان مصـدره ، فليس – فيما نرى – من ثمرة الإسـلام بوصـفه مقام ( الإحسان ) الذى سجله الحديث النبوى المشهور ، كما قدمنا ،وهو فى تساميه أبعد من لهو الفلسفة وعبثها ، وإن تأولت .
* * *
السؤال الرابع
ثابت أن المسلمين لم يعرفوا التصوف ، إلا بعد ثلاثة قرون من انتشار الإسلام .
1. فهل يحتاج الإسلام إلى التصوف ؟
2. هل التصوف يضيف جديداً إلى الإسلام ؟
3. وما هو الفرق بين الزهد الإسلامى والتصوف ؟
الجواب :
من الذى قال بأن المسلمين لم يعرفوا التصوف إلا بعد القرون الثلاثة الأولى ؟
هذه مجازفة : ليست بعلمية ، ولا تاريخية ، وليس لها سند ، فإذا كان المراد بأنهم لم يعرفوا لفظ التصوف إلا بعد القرون الثلاثة، فليس هذا بصحيح أيضاً ( هذا الذى قالوه : إنما من كلام ابن تميمة رحمه الله تعالى ، قال فى كتابه " الصوفية والفقراء " :
" الحمد لله : أما لفظ الصوفية ، فإنه لم يكن مشهوراً فى القرون الثلاثة الأولى وإنما اشتهر التكلم به بعد ذلك .
وقد نقل التكلم به من غير واحد من الأئمة والشيوخ كالإمام أحمد بن حنبل ، وأبى سليمان الدرانى ، وغيرهما .
وقد روى عن سيفان الثورى أنه تكلم به ، وبعضهم يذكر ذلك عن الحسن البصرى .
وتنازعوا فى المعنى الذى أضيف إليه الصوفى ؛ فإنه من أسماء النسب كالقراشى ، والمدنى ، وأمثال ذلك ، فقيل : إنه نسبة إلى أهل الصفة ، وهو غلط ؛ لأنه لو كان كذلك لقيل : صُفّى .
وقيل : إنه نسبة إلى الصف المقدم بين يدى الله ، وهو أيضاً غلط ، فإنه لو كان كذلك لقيل : صَفُىٌ .
وقيل : نسبة إلى صوفة بن أُد بن طابخة قبيلة من العرب كان يجاورون بمكة من الزمن القديم ، ينسب إليهم النساك " إلى آخر ما قال) .
فقد اثبت مؤرخو اللغة وغيرهم أن هذا اللفظ كان عندما اشتهروا بالخشونة والرجولة ، ولبس الصوف ، والاستعداد للجهاد ، فإن تصوف المسلمين : دعوة إلى القوة ، والحرية ، والمساواة ، والتكافل ، والإخاء ، والتوحيد ، ومعالى الأمور ، لبناء شخصية المسلم المتكامل ، وكان عهد التدوين قد بدأ بمن كتب الحديث فى عهد رسول e ، وظل ينمو حتى ازدهر فى أواخر القرن الأول ، وأوائل الثانى ، بتحرير الحديث والفقه ، والتفسير ، واللغة ، وما إلى ذلك .
( وقال ايضاً بعد كلام :
" ... والصواب أنهم مجتهدون فى طاعة الله ، كما اجتهد غيرهم من أهل طاعة الله ؛ ففيهم السابق المقرب بحسب اجتهاده ، وفيهم المقتصد الذى هو من أهل اليمين ... " إلى آخر ما قال رحمه الله تعالى ، فراجعه هناك ." )
أما إذا كان المراد بأن مادة التصوف وحقيقته وأصوله وموضوعه لم تُعرف إلا بعد هذه المدة ، فالخطأ هنا يستحيل إلى خطيئة ، فمادة التصوف من حيث العبادة ، والخلق – على أوسع معانى العبادة والخلق – موجود مشهودة فى الكتاب والسنة ، شأن بقية مواد علوم الدين ، فإذا لم يكن لفظ ( التصوف ) موجوداً فى هذا العقد ، فقد كانت العبادات والأخلاق ، وتربية النفس ، ووسائل العفة بالله ، والارتفاع بإنسانية الإنسان ، كل هذه مسجلة فى دين الله ، وهى التصوف ( سماه الناس كذلك ) كل هذه مسجلة فى دين الله ، وهى التصوف ( سماه الناس كذلك ) فالاسم حادث ، والمادة قديمة بقدم الكتاب والسنة ، شأن بقية علوم الدين سواء بسواء .
ولم يكن هذا بدعاً ، فلم يكن فى هذا العهد علم باسـم ( الفقه ) ولا باسم ( الأصول ) ولا باسم ( مصطلح الحديث ) ، ولا غير ذلك من علوم الدين ، ولكن المادة كانت موجودة بين دفتى الكتاب والسنة . فلا دٌونت العلوم ، ورٌسمت القواعد والمصطلحات ، أطلقت الأسماء حسبما رجحته الظروف الواقعية آنذاك .
وإذن ، فلماذا ننكر تسمية التصوف ، ولا ننكر تسمية بقية علوم الدين ، والشأن واحد !؟
ثم لماذا ننكر تسمية (التصوف) ولا ننكر تسمية (التسلف) ؟!
مزيد بيان التصوف :
فى " لسان العرب " لابن منظور يقول : " الصوف : للضأن ، والصوفه أخص ... ثم قال : والصوفة : كل من ولى شيئاً من عمل البيت الحرام وهو الصوفان .... وصوفة ... أبو حى من مضر ، كانوا يخدمون الكعبة فى الجاهلية ن وهى أعظم ما يولى يومئذ " ... ثم قال :
" وصوفة حى من تميم كانوا يجيزون الحاج فى الجاهلية من منى فيكونون أول من يدفع يقال فى الحج : أجيزى صوفة ... " .
وفى هذا المعنى يقول ابن الجوزى : أنبأنا محمد بن ناصر ، عن أبى اسحق إبراهيم بن سعد الحبال ، قال : قال أبو محمد بن سعيد الحافظ ، سألت وليد بن القاسم : إلى أى شئ ينسب الصوفى ؟ فقال : كان قوم على دين إبراهيم فى الجاهلية يقال لهم : صوفة ، انقطعوا إلى الله عز وجل ، وقطنوا الكعبة ، فمن شبه بهم فهم الصوفية .
ثم قال : فهؤلاء المعرفون بصوفة ، ولد الغورث بن مر ، بن أخى تميم .
وفى المعجم الوسيط : " صَوف فلاناً : "جعله من الصوفية ، و"تصوف فلاناً " صار من لصوفية . " والتصوف " طريقة سلوكية قوامها التقشف والتحلى بالفضائل ،لتزكو النفس وتسمو الروح . " وعلم التصوف " مجموعة المبادئ إلى يعتقدها المتصوفة ، والآداب التى يتأدبون بها فى مجتمعاتهم وخلواتهم . و " الصوفى " من يتبع طريقة التصوف " .
وهكذا يتأكد : أن كلمة التوصف عربية قديمة ، فى لغة العرب ، فمن ارجعها إلى (سوفيا) اليونانية ، فقد جهل وانحرف وقلد العميان ، ومن أدعى إنها بدعة محدثة ، كان أشد جهلاً وانحرافاً ؛ فالتصوف أخلاق ، وعبادة ، ودعوة ، وجهاد ن وسلوك ، فهو وحى من الوحى ودين من الدين .
إن كلمة صوفى بعيدة كل البعد – من حيث المعنى – عن التأثر باليونان ، فقد عرفت واستعملت قبل نهاية القرن الثانى الهجرى ، حيث أطلقت على أبو هاشم الكوفى ( المتوفى سنة 150هـ ) ، وإن هذا النوع من التصوف وليد لحركة الإسلام ذاته ، وإن العرب استمدوا أول علمهم بفلسفة أرسطوطاليس " الذى نقل إلى العربية ، من شرح الأفلاطونية الحديثة ، وليس كتاب " أثولوجيا أرسطوطاليس " الذى نقل إلى العربية حوالى 840 م إلا ملخصاً لمذهب الأفلاطونية الحديثة . ويؤيد هذا الاتجاه المحقق من واقع التاريخ " عباس محمود العقاد " فى كتابة " الفلسفة القرآنية " حيث يقول : " لكن التصوف فى الحقيقية غير دخيل فى العقيدة الإسلامية ؛ لأنه – كا فلنا فى كتابنا – " أثر العرب فى الحضارة الأوربية " : مبثوث فى آيات القرآن الكريم ، مستكن بأصوله فى عقائده الصريحة . فالمسلم يقراً فى كتابه أن ] ليس كمثله شئ وهو السميع البصير [ " سورة الشورى ، الآية : 11 " فيقراً خلاصـة العلم الذى يعلمه دارس الحكمة الإلهية ، ويقر فى كــتابه ] ففروا إلى الله إنى لكم منه نذير مبين [ " سورة الذاريات : الأية 50 " فيعلم ما يعلمه تلاميذ المتصوفة البوذيين حين يؤمنون بأن ملابسة العالم تكاد تكون سعادة الروح ، وأن الفرار منه ، أو الفرار إلى الله : هو باب الجنة ... فالمسلم : الذى يقرأ الآيات – هو مطبوع على التصوف والبحث عن خفايا الآثار ودقائق الحكمة .
2. أما : هل الإسلام يحتاج إلى التصوف ؟ فإذا كان الشىء يحتاج إلى نفسه ، جاز أن يقال : إن الإسلام يحتاج إلى التصوف .
الإسلام انقياد ظاهرى ، لا يتم إلا بالانقياد الباطنى ، وإلا كان نفاقاً .
والانقياد الباطنى هو : الإيمان بوصفه عملاً من أعمال القلب ، التى نسميها " التصوف " ، فليس التصوف شيئاً غير الإسلام ، حتى يقال :
إنه يحتاج إليه ، او يستغنى عنه ، إنما التصوف هو ذروة الدين كله ، مقام " الإحسان " : التقوى ، والتزكية ، والربانية ، كما قدمنا ، فهو الغاية والثمرة التى لا تتاح إلا لسالك مريد موفقًّ ذَواق .
وهكذا نجد : أن السؤال الذى يقول : هل التصوف يضيف جديداً إلى الإسلام سؤال غير وارد ، والإجابة عليه واضحة فى الرد على الشطر السابق .
أين هذا السؤال من قوله تعالى : ]اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتى ، ورضيت لكم الإسلام ديناً [ " سورة المائدة ، الآية : 2 "
أن التصوف الحق هو : الإسلام فى اعلى مستوياته .
ومن اعجب العجب من بعضهم أن يكتب أنه يقبل أوصاف الشكر والصب والورع والزهد والذكر والفكر ، من كتب المتمسلفة ، ولا يقبلها من كتب المتصوفة ، تعصباً وغلاً للذين آمنوا
أما الفرق بينه وبين الزهد الإسلامى : فإن الصوفى أكبر من زاهد فى الدنيا ؛ لأن الزاهد إنما يزهد فى الدنيا ، وهى لا شئ ، فالزهد فى الدنيا زهد فى لا شئ ، والزاهد فى ( لا شئ ) غافل أو جاهل ، لكن زهد الصوفى منصب على كل ما يبعده عن الله ، على أى وضع يكون ، أما كل ما يكره بالله ( ولو على المال ) فليس هو بزاهد فيه .
دخل صوغى على أحد الخلفاء ، فحدثه ، فأجازه الخليفة بما لم يكافئ بمثله أحداً قبله : فاعتذر الصوفى عن قبول عطية الخليفة ، فاندهش الخليفة قائلاً له : ما أزهدك !! قال الصوفى : بل أنت أزهد منى يا أمير المؤمنين .
قال : كيف ؟
قال : لأننى أزهد فى الدنيا ، وهى لاشىء ، وأنت تزهد فى الآخر ، وهى كل شئ . "وهو نوع من التبكيت الواضح "
الزهد عند الصوفية : أن تكون الدنيا فى يده ، لا فى قلبه ، لأن الزاهد ( غير الصوفى ) تاجر ، يحرم نفسه من متع الدنيا ، ليعوضها أضعافاً فى الآخرة ، ولا كذلك الصوفى الذى لا يحرم نفسه متعة أحلها الله ، إلا إذا حجبته عن الله .
وهذا أبو الحسن الشاذلى t ، كان صاحب تجارات ومزارع ، وهذا شمس الدين الدمياطى ، كان تاجراً من أثرى علماء الصوفية ، وهو الذى بنى برج دمياط من ماله الخاص فى عهد السلطان الغورى ، وهذا الليث بن سعد ، فقيه مصر ، وأمام زهادها ، كان أثرى أهل عصره . ولم تمنع هؤلاء أموالهم أن يكونوا أزهد الناس فى الدنيا إذا شغلتهم عن الله عز وجل . ولكنهم لم تشغلهم بعد ، بل كانت طريقهم إليه عز وجل !!
وهكذا يتضح أن سحق الشخصية بالزهد المادى ، والتبتل البشرى مما لا تعرفه قوانين التصوف الإسلامى .
وقد كان من أعيان الزاهدين من الصحابة : بلال ، وسلمان ، وأبو ذر ن وتميم الدارى ، أول من جلس فى مسجد رسول الله e أيام عمر يذكر الناس بالله فى يوم الجمعة .
فإنما الزهد فى حده المحدود ، مما جاء عن كثير من الصحابة والتابعين وتابعيهم كما أسلفنا .
وفى صدر هؤلاء جميعاً زهد ( العمرين ) ابن الخطاب ، وابن عبد العزيز بعد سيدنا رسول الله e ؛ فقد كانت الدنيا فى أيديهم ، ولم تكن فى قلوبهم ، فاستغنوا برب الدنيا عن الدنيا وما فيها ومن فيها .
إن الذى يملك هو الذى يملك ، وهو الذى يزهد ، أما الذى لا يملك ، ففى أى شئ يزهد ؟!
* * *
السؤال الخامس
بم تعلل فضيلتكم كون شيوخ التصوف من الفرس ، وأحفاد المجوس ، فى العصر الإسلامى ؟ وكيف تعلل ازدهار التصوف فى القرن السابع ، وما بعده بين العرب والمنتسبين إلى رسول الله e ؟
الجواب :
ليتك يا ولدى لم توجه إلى هذا السؤال العنصرى الذى لا يرضاه الله ولا رسوله ، أو لم تقرأ قوله تعالى : ] إن أكرمكم عند الله أتقاكم [ " سورة الحجرات ، الآية : 13 . وقوله تعالى : ] إنما المؤمنون إخوة [ وقوله e : " لا فضل لأبيض على احمر ، ولعربى على عجمى إلا بالتقوى " " وفى رواية ذكرها ابن كثير فى تفسيره لقوله تعالى : ] إن أكرمكم عند الله أتقاكم : ] يا أيها الناس ، وأن الله تعالى قد أذهب عنكم غبية بالجاهلية وتعظمها بآبائها ، فالناس رجلان : رجل يرتقى كريم على الله ، ورجل فاجر شقى هين على الله [ إلى آخر الحديث الذى رواه أبن أبى حاتم [ " . وقوله e " إن الله أذهب عبية الجاهلية وفخرها بالآباء ؛ مؤمن تقى ، وفاجر شقى ،أنتم لآدم وآدم من تراب . وقوله e ، وقد تمعر وجهه غضباً : " ليدعن أقوام بأقوام إنما هم حطب من حطب جهنم ، أو ليكونن أهون على الله من الجعلان التى تدفع بأنفها النتن " ومن نصوصه : ( لينتهين أقوام يفتخرون بآبائهم الذين ماتوا إنما هم فحم جهنم ، أو ليكونن أهون على الله من الجعل الذى يدهده الخراء بانفه . إن الله أذهب عنكم عبية الجاهلية فخرها بالآباء ؛ إنما هو مؤمن تقى ، وفاجر شقى ، الناس كلهم نو آدم ، وآدم من تراب " رواه الترمذى .
ألم يأتك أن سيدنا رسول الله e ألحق به سيدنا سلمان الفارسى ، فقال : " سلمان منا أهل البيت " – ألم يرسل الله رسوله للناس كافة بشيراً ونذيراً ؟!
إنها حمية الجاهلية ، يرددها ببغاوات البشر ، بلا تدبر ، ولا بينة ، وهل جاء الإسلام للعرب وحدهم ، فاغتصبه منهم غيرهم ، فأصبحوا منبوذين ؟!
لم هذه الشعوبية ، والعنصرية الكريهة ، التى ينكرها الإسلام ، وتنكرها الإنسانية الشريفة ؟!
أليس الإمام البخارى ، والترمذى ، والنسائى ، وابن ماجه ، والطبرانى ، والبيقهى ، والاكثرية الغالبة من رجال الحديث ، كلهم من غير العرب ، وكذلك طائفة من أكبر المفسرين ، كالزمخشرى ، والنيسابورى ، ، وطائفة من أكبر علماء البلاغة ، كالجرجانى ، والتفتازانى !؟ من هو طارق بن زياد ، وموسى بن نصير ، هذان الموليان القائدان الفاتحان ، اللذان أسسا للإسلام مجداً تاريخياً ، لا يمحوه الزمان ؟
من هو ابو حنيفة النعمان ؟ اليس كان من الموالى ، ولولاه ما كان لبنى تيم الله ذكر ولا فخر " أبو حنيفة من الأفغان ، قالوا من كابل "
يا ولدى : إمام مصر الليث بن سعد ، أصله من ( أصبهان ) ، أمام أهل السنة ، احمد بن حنبل ، أصله من ( مرو ) والإمام المفسر الطبرى ، أصله من ( طبرستان ) ، والشعبى علامة التابعين وغمامهم ، كانت أمه من ( جلولاء ) ، والحسن البصرى ، الكوكب الفرد ، ، كان أبوه من ( ميسان ) .
وهذه علاّمة اللغة سيبويه ، فارسى الأصل ، والأمام الكسائى ، فخر اللغة العربية ، أصله من فارس ، وتلميذه الإمام الفراء من الديلم ، ثم أن إبن مسكويه وابن سينا ، والفارابى ، كانوا فرساً أعجمين .
اسمع يا ولدى : فقيه مكة ، عطاء بن رباح ، وفقيه الشام : مكحول ، وفقيه الجزيرة : ميمون بن مهران ، وفقيه خراسان : الضحاك بن مزاحم ، وفقيها البصرة والكوفة : إبراهيم النخعى وابن سيرين ، كل أولئك ليسوا من العرب أصلاً ، ولكنهم برزوا فى جوانب العلم والفكر والمعرفة والدين ؛ كانوا الأئمة بكل ما فى اللفظ من معنى يتجدد ولا يفنى .
إنما يتفاضل الناس بالأحلام " العقول " ، لا بالأرحام ، والناس عند الله سواسية كأسنان المشط ، والله يقول : ] و لا تنسوا الفضل بينكم [ " سورة البقرة : الأية : 237 " ولقد أمر رسول الله e أسامة بن زيد ( مولاه ) على جيش كان فيه أبو بكر وعمر . وعندما أراد عمر أن يستخلف قال : " لو كان سالمُ مولى حذيفة حياً لوليته !! " .
تأمل هذا الموقف الخطير .
ا ولدى ها هام أهل العلم : لا يكادون يذكرون ابن عمر ذكروا معه مولاه نافعاً ، ولا يكاد يذكر أنس بن مالك ، إلا ومعه مولاه ابن سيرين . ولا يكاد يذكر ابن عباس ، إلا ومعه مولاه عكرمة . ولا يكاد يذكر أبو هريرة إلا ومعه مولاه ابن هرمز .... وما اكثر هذه الامثلة فى الإسلام .
لقد\ أطلت عليك – عامداص فى هذا المجال – يا ولدى ؛ فإن هذه الشعوبية هى التى كانت مسمار النعش فى وحدة الإسلام ، والتى انتهت بما يسمى زوراً " النهضة العربية " وهى التى قصمت ظهر الخلافة ، وشتت العرب أوزاعاً وشيعاً ودويلات هزيلة متناحرة باسم العروبة ، والقومية ، التى تٌستخدم الآن بلا وعى ولا تدبر .
ولنرجع إلى سؤالك فى تعليل كون بعض الشيوخ الصوفية اوائل من الفرس ؛ فهؤلاء الناس اجتهدوا فى هذا الجانب ، كما اجتهد غيرهم ممن ذكرنا أسماءهم ، فاستحقوا التقديم والإمامة كمسلمين ، فإذا قيل :
إنهم فعلوا ذلك ليحطموا الإسلام من الداخل ، فهذه قضية ، إذا فرضنا نهوض دليلها فى واحد ، فلن ينهض هذا الدليل فى كل واحد . وفى كل طائفة طيب وخبيث ، والحلال بين والحرام بين ، ولو طبقنا قاعدة سوء الظن بالفرس ، أو بغير العرب عموماً ، لأذهبنا ثلثى علوم الإسلام ، ولكان أول ما ننبذه كتاب البخارى ، ومن والاه ، فهل هذا منطق يقول به إنسان سوى أو قاض منصف ؟ ( ألا يظن أولئك أنهم مبعثون . ليوم عظيم ) " سورة المطففين : الإية 4 ، 5 " أولا يذكرون قول الله تعالى : ] وقالوا ما لنا لا نرى رجالاً كنا نعدهم من الأشرار [ " سورة : ص : الآية 62 ."
إن من إحفاد المجوس : من خدم الإسلام أصدق الخدمات فى الثقافات والعلوم ، والفتوحات والفنون ... وراجع إن شئت من حضرنا ذكرهم وأسلفناه، ومن ورائهم صف شريف طويل معروف ، لم نشر إليه ، وهؤلاء شــأنهم – بالضبط شـأن كبار الصحابة ( وقد كانوا – أى الصحابة – من المشركين ) .
أما تعليل ازدهار التصوف فى القرن السابع ، وما بعده بين العرب ، والمنسوبين بحق أو بباطل إلى رسول الله y فإن هذا السؤال يحتاج إلى تكملة : هى أن هذا الازدهار فى هذا القرن وما قبله ، كان بين العرب وغيرهم ، وكان هذا نتيجة لطبيعة الأشياء ؛ فإن تطور الدعوة الصوفية وامتدادها ، كان قد أهل الكثيرين للزعامة والاجتهاد فى هذا الوقت ، كثمرة للتفاعل ، والتطور فيما سبق هذا الزمان .
فمثلاً : نجد من صوفية القرن السابع أمثال أبى الحسن الشاذلى ، وأحمد البدوى . وابن دقيق العيد ، ومجد الدين القشيرى ، وزكى الدين المنذرى – ونجد من قبلهم فى القرن السادس أمثال أحمد الرفاعى ، وأبى مدين . ونجد فى القرن الخامس ، أمثال الغزالى ، وعبد القادر الجيلانى . وفى الثالث والرابع أمثال : الجنيد ، والشبلى ، ومن قبلهم ذو النون المصرى ، وأبو يزيد . ومن قبلهم الحسن المصرى ، وسفيان الثورى ، ومالك بن دينار ، وإبراهيم بن أدهم والفضيل بن عياض ، وشقيق البلخى ، وحاتم الأصم – بكل ما فى تواريخهم من صدق وكذب ، وأصيل ودخيل .
أضف إلى ذلك موضوع التطور والامتداد ، وقابلية البيئة ، بما كان من الحروب الصيلبيية والتترية والمغولية ، واضطراب عاصمة الخلافة ببغداد ، ومثل هذه الظروف بطبعها تدفع الناس إلى الله تلقائياً ، وقد جربنا نحن أخيراً فى العاشر من رمضان ، فمن أجل هذا وما هو منه ، أو يتعلق به ، كان هذا الازدهار الذى تشير اليه .
***
السؤال السادس
من الاتهامات الموجهة إلى التصوف :
• أنه لا سند له من الكتاب والسنة .
• أنه دخيل على الإسلام .
• أنه يدعو إلى عقائد تتعارض مع عقيدة التوحيد ، كالحلول ، والاتحاد والوحدة .
• أنه يدعو إلى تقديس المشايخ ، والاستعانة بهم فى الشدائد ، واعتقاد أنهم يملكون النفع والضر .
• أنه يدعو إلى التواكل والسلبية .
الجواب :
• أما أن التصوف لا سند له من الكتاب والسنة . فقول ساقط بعد كل ما قدمنا ، فإذا لم يكن التعبد ومكارم الأخلاق ومحاسبة النفس ، والأخذ بالأحوط ، ومجاهدة الهوى والشيطان ، إذا لم يكن كل ذلك له سند من الكتاب والسنة ، فقد جهل الناس الكتاب والسنة ، وفيما ذدمن أدلة مكررة على أن تصوف المسلمين هو عصارة الإسلام وإكسيره ، لا يمترى فى ذلك إلا ذو هوى ، أو من هوى !؟ .
• وبهذا ، وبالذي قدمنا ، يتأكد أن التصوف نابع من العقيدة ، والبيئة الإسلامية جملة وتفصيلاً ، وليس هو بدخيل على دين الله ، إنما الدخيل ، هو هذه الدعوى العصبية المتشنجة ، التى تفوح بالغرض ، والمرض ، وحسبك أنها بضاعة استشراقية ، استعمارية صهيونية ، لا هم لها إلا انتقاض الإسلام .
• أما أن التصوف يدعو إلى عقائد الحلول والاتحاد والوحدة ، فليس هذا هو تصوف المسلمين ، وإنما هو تصوف أجنبي ، أعجمي ، مدسوس والمتهمون به نفر معدود محدود ، انتهى أمرهم ، وليس لهم اليوم تابع ولا وارث ، كما قدمنا ، وأصبح ما نسب إليهم بحق أو بباطل ، سواء قبل التأويل ، أو لم يقبله ، نوعاً من الحفريات التاريخية ، التى لا يتابعها إلا الهواة والمتخصصون ، إن وجد اليوم هواة أو متخصصون فى البحث عن مقابر الأفكار المهملة ، وإلا أصحاب الهوى الذى يعمى ويصم ، ولا اعتبار لأولئك و هؤلاء .
وقد اصبح الكلام اليوم فى هذا الجانب نوعاً من مجرد الإثارة والتشويه ، والعبث وإضاعة الأوقات ، والتشويش على أفاضل الناس وشراء العاجلة بالآجلة .
وإنما يقول الصوفية بنوع معين من الفناء ، فصله الشيخ ابن تيميه فى ( رسائله ) بشئ من الإنصاف ، وأشار إليه الشيخ ابن القيم فى شرحه على كتاب الهروى " كتاب منازل السائرين لشيخ الإسلام : عبدالله بن محمد بن إسماعيل الآنصارى الهروى الحنبلى الصوفى المتوفى سنة 481 هـ ، شرحه أبو بكر بين قيم الجوزية الدمشقى الحنبلى المتوفى سنة 481 هـ ، شرحه أبو بكر بن قيم الجوزية الدمشقى الحنبلى المتوفى سنة 751 هـ ، وسماه " مدراج السالكين "
وشتان ما بين هذا والقول الفاجر بالحلول ، والاتحاد ، والوحدة المنكرة .
• أما أن التصوف يدعو إلى تقديس المشايخ ، والاستعانة بهم فى الشدائد ، واعتقاد أنهم يملكون النفع والضرر : فهذا كلام فه تجاوز ومغالطة ؛ فإن التصوف يدعو إلى احترام الشيخ كوالد روحى ، وهو أدب إسلامى مقرر ، لا خلاف عليه . وفى الحديث الصحيح " ليس منا من لم يوقر كبيرنا ، ويرحم صغيرنا ، ولم يعرف لعالمنا حقه " رواه الترمذى عن ابن عمر ، وأبو يعلى عن أنس ، والعسكرى عن عبادة ابن الصامت ، والقضاعى عن ابن عباس " ، و لا تنس تأديب الله للصحابة مع رسول الله y ، فهو أصل أدب التابع مع المتبوع " راجع سورة الحجرات " .
أما الاستعانة بدعاء الشيخ ، وابتهاله إلى الله فى شدائد ابنائه ، فهو أدب إسلامى ثابت ، يعرفه كل من قراً ( باب الدعاء ) فى كتب المسلمين .
أما أنهم يزعمون أنهم يملكون النفع والضرر ، فالذى يملك هو الله وحده ، وعندما يغضب الشيخ لربه من مخالف لله فيدعو ، فيغضب الله لغضب وليه ، ويستجيب له ، فلا يقال عندئذ إن الشيخ يملك نفعاً ولا ضراً ، إنما هو من باب : "" لئن سألنى لأعطينه ، ولئن استعاذنى لأعيذنه " وم نصوصه ، ما رواه الطبرانى فى معجمه الكبير عن أبى أمامة رسول الله y قال : قال الله تعالى : ( ما يزال عبدى يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه ، فاكون سمعه الذى يسمع به ، وبصره الذى يبصر به ، ولسانه الذى ينطق به ، وقلبه الذى يعقل به ، فإذا دعانى أجبته ، وإذا سألنى أعطيته ، وإن استنصرنى نصرته ، وأحب ما تعبدنى عبدى به : لى " .
والقول بغير هذا إنما هو مسخ للصورة بالمغالاة والإغراق والتنفير .
وإذا كان هناك شئ من ذلك فرضاً جدلياً فهو مما يعالج بالبيان والإرشاد والقول الطيب ، ونحن أمة تحكمها الأمية ، فلا ننكر أن فيها ضلالة وجهالة ، وإنما فى حاجة – أشد الحاجة – إلى النصح والتوجيه بالحكمة البالغة ، والموعظة البليغة .
• بقى القول بأن التصوف يدعو إلى السلبية والتواكل .
التصوف الحق هو : الإسلام ، وليس فى الإسلام سلبية ، ولا تواكل ، وإنما هى أمراض اجتماعية لصقت بالتصوف زوراً وبهتاناً ، وقد كان عبد الله بن المبارك ، يحج عاماً ويجاهد عاماً ، وقد كان شقيق البلخى فارساً مغوراً ، يطلب الموت حتى استشهد فى سبيل الله ، وكذلك كان حاتم الاصل ، مقاتلاً بارعاً ، له فى الجهاد مواقف وكرامات .
وقدمت أن أبا الحسن الشاذلى كان صاحب مزارع وتجارات ، وأن شمس الدين الدمياطى بنى برج دمياط من ماله الخاص ، ومن ربحه من تجارته .
وغذ1 تتبعت آداب المريدين بالصوفية ، لوجدتهم جميعاً يدفعون تلاميذهم إلى العمل والإنتاج ، ويعرفون تماماً كل ما ورد فى هذا الباب عن النبى y ، ثم عن أشياخهم فى الله الذين يؤكدون لهم أنه لا يمكن تحقيق خلافة الله على الأرض بالسلبية والتواكل والاستسلام ، فإذا تغالى أو تطرف واحد ، فليس هو كل واحد .
ولقد ثبت فى الحديث أن بعض الصحابة تغالى بأكثر مما يفعل الرهبان ، والنبى y حىّ ، فنهاهم الرسول y " وحديث نهى النبى y عن التبتل متفق عليه ، ورواه الإمام أحمد ، وأبو دواود عن سعد ، وأحمد الترمذى والنسائى وابن ماجه عن سمرة .
وروى الدرامى عن سعد بن أبى وقاص " رضى الله عنه " أنه قال : " لما كان من أمر عثمان ابن مظعون قال : يا رسول الله : إنى رجل تشق على هذه العزوبة فى المغازى فتأذن لى يا رسول الله فى الخصاء فأختصى ؟
قال : لا ، ولكن عليك يا ابن مظعون بالصيام فإنه مجفرة " .
لإذا انفرد واحد بمغالاته ، فليس هذا بقانون ولا قاعدة فى الجميع ، ولا بعار يؤخذ به سواه .
نزل أحد المريدين على زاوية الشيخ ضيفاً ، فأقراه ثلاثة أيام .
ثم قال له : يا ولدى قد انتهت مدة الضيافة .
فقال المريد : إنما جئت لأتصوف .
فقال الشيخ : " ليس التصوف عندنا أن تصف قدميك وغيرك يمون لك ، ولكن أبداً برغيفيك فأحرزهما ، ثم تصوف ، ثم اجعل منشارك مسبحتك ، واذكر على دقات الفأس والمكوك " .
وقد كانت الألقاب الصوفية تدل على ما يتناولونه من حرف ومهن وصناعات :
فمنهم الدقاق ، والسماك ، والوراق ، والخواص ، وهكذا تعرف أنهم كانوا بحق أمثالاً للمسلم الكامل إيماناً ، وعملاً وإيجابية ، وصلة كبرى بالله .
فالتواكل مرض دخيل على التصوف الصحيح ، يعالجه صوفية العلماء ، كل بأسلوبه .
* * *
السؤال السابع
أولياء الله ، من هم ؟
وهل يجوز تعيين ولى لله بالاسم ؟
وهل الولاية تورث بالأسرة ؟
الجواب :
أولياء الله هم عباده الصالحون ،الذين نسلم عليهم فى كل صلاة كلما قرأنا التشهد ، وعلى رأسهم الأنبياء ، عليهم صلوات الله وسلامه ، ثم يليهم فى ولاية الله أتباعهم ، فأصحاب سفينة نوح ، وأصحاب ميقات موسى ، والحواريون مع عيسى والراشدون ، ومن تبعهم بإحسان ، والائمة من أمة مولانا رسول الله y ، كل أولئك ، ومن على أقدامهم هم الأولياء الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون " .
والشرط فى الولى : الإيمان ، والتقوى ، كما جاء فى الآية ] الذين آمنوا وكانوا يتقون [ " سورة فصلت ، الآية : 18 " ثم ( الصلاحية للنيابة عن حضرة المصطفى y ] والله يتولى الصالحين [ " لقوله تعالى ] وهو يتولى الصالحين [ من سورة الأعراف ، الآية : 196 " .
فالصلاحية بمعنى الصلاحية التى تستوجب كفاية معينة فى الجوانب الثقافية والروحية ،
والذاتية والتعبدية ، حتى يكون العبد أهلاً للتبليغ ، ووارثة النبوة ، وسيادة البشرية ] ولقد كتبنا فى الزبور من بعد الذكر أن الرض يرثها عبادى الصالحون [ " سورة الأنبياء ، الآية : 105 وهنا ينكشـف البون الهائل ، ما بين ( الولاية ) و( الــبلاهة ) ، وما بين ( الولايـة ) و( الاحتراف ) ، وأن الولاية كسب غال بمجهود أغلى أو هى اجتباء بحكم المشيئة الإلهية ، كما جاء بالآية ] الله يجتبى إليه من يشاء ، ويهدى إليه من ينيب [ " سورة : الشورى ، الآية : 13 ) .
وتعيين رجل توافرت فيه الشروط بوصف الولاية ، لا يتعارض مع مبادئ الإسلام – فيما أعرف – وقد وصف علماء الحديث رجالاً بأوصافهم لا حرج .
أما أن الولاية ميراث حتمى : فذلك ما لاعلم للتصوف به .
ولابد هنـا من الإشــارة إلى أننى أتحدث عن ( التـصوف ) ، وهنــاك شئ آخر نسـميه ( المتصوف ) وهذا هو الذى أساء إلى التصوف ، ومازال ، وسوف يبقى كذلك ، ما لم يشأ الله شيئاً ، وما لم ينقذ الله التصوف من التردى الذى يعانيه .
كما أنه لابد من الإشارة إلى أن للولاية معانِ شتى جاءت بها كلمات القرآن والحديث ، تدور حول أولياء الرحمن ، وأولياء الشيطان ، وقد حصرنا الكلام هنا ، فيما نرجح أنه المقصود وفى الحجم المطلوب للصحيفة . ( فنحن هنا للقارئ عناوين ومؤشرات فقط وللبحوث مقام آخر ) .
* * *
السؤال الثامن :
لماذا يبدى الصوفية ولعاً شديداً :
• بإقامة الأضرحة ؟
• وبإقامة الموالد ؟
• والتماس بركة الموتى ؟ ... وما سند ذلك من الكتاب والسنة ؟
الجواب :
• الصوفية لا ييأسون من الموتى ] كما يئس الكفار من أصحاب القبور [ " آخر سورة الممتحنة " وهم يرون أن الموت مرحلة من مراحل السفر الإنسانى الكادح إلى الله ، فالميت عندهم حى حياة برزخية ، وللميت علاقة أكيدة بالحى ، بما صح عن رسول الله y من احاديث ، رد الميث السلام على الزائر ، ومعرفته ، وبتشريع السلام على الميت عند قبره ، ومحادثته y لموتى ( القليب يوم بدر ) ، كما وردت فى عدة أحاديث ثابتة .
ومن القرآن حسبك قوله تعالى ] ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم [ " سورة آل عمران ، الآية : 17 [ - فهناك إذن علاقة مؤصلة بين الحى والميت ، وإلا الدعاء والسلام على الميت موجهاً إلى الأحجار !!
ومعنا رسول الله y لأهل البقيع ، والسلام عليهم وتكليمهم والدعاء لهم .
وللأمام ابن قيم الجوزية ( تلميذ ابن تميمة ، وحواريه ، ووارث دعوته ) له كتاب الروح وقد أثبت فيه كل مذهب الصوفية ، بما لا مزيد عليه ، فى موضوع الحياة بعد الموت ، وعلاقة الأرواح بالأحياء ، ولابن أبى الدنيا فى ذلك تأليف مفيد .
والصوفية يعتقدون : بحق : أن الولى فى الدنيا ولى بخصائصه الروحية ، وماهبه الرهبانية ، والخصائص والمواهب من متعلقات الرواح ، ولا ارتباط لها بالأجسام ألبتة ، فالولى حين يموت ترتفع خصائصه ومواهبه مع روحه إلى برزخه ، ولروحه علاقة كاملة بقبره ؛ بدليل ما قدمنا من السلام عليه وده السلام ... إلخ . ومن هنا جاء تكريم هؤلاء السادة الصالحين من أصحاب القبور .
وقد ثبت أن رسول الله y وضع حجراً على قبر بعض الصحابة ، وهو عثمان بن مظعون رضى الله عنه " فى أسد الغابة : أنه لما توفى سيدنا إبراهيم بن رسول الله y قال: " الحق بالسلف الصالح : عثمان بن مظعون " . وأعلم النبى y قبر عثمان بن مظعون بحجر ، وكان يزوره " ، وقال : " أتعرف به قبر أخى " وكان هذا الحديث ، بعد حديث على t بتوسية القبور المشرفة ، فاستدلوا به على جواز اتخاذ ما يدل على القبر ، وعلى فضل صاحب القبر بلا إغراق ولا مبالغة ، رجاء استمرار زيارته ، والدعاء له والقدوة به ، والصدقة عليه ، وحفظ أثره .
ومن هنا نقل الميت من مكان إلى مكان أفضل ، كما صح فى حديث جابر غيره .
ثم بالغ بعض الناس فى لك – بحسن نية من جانب ، وخوف اندثار القبر من جانب آخر – فاتخذ الآمر بالتطور الصورة التى تراها ، وقالوا : إن الأمر يدور مع علته ، وقد كانت علة تسوية القبور ، والمنع الأول من زياراتها ، هى مخالف الانتكاس والعودة إلى الشرك ، وقد استقر الإيمان والتوحيد فى قلوب الناس ، ( وإن أخطأت أحياناً ألسنتهم ) فلا باس بعمل ما يذكر الصالحين للقدوة والاعتبار ، والقيام بحق صاحب القبر من الزيارة وغيرها
( وقد نقلنا آراء علماء المذاهب فراجعها فيما يأتى ) .