قال الله سبحانه وتعالى : (وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله) فأضاف الكلام إلى الله تعالى ، مع أن الناطق به رسول الله r ، وقوله تعالى : (الرحمن الرحيم) لما ذكر اسمه جل وعلا ترقب السامع بأي صفة يصف الله نفسه ، ثم استشعر صفة تخويف كالجبار ن والقهار ، فقال سبحانه : لا خوف عليك لأنه ؛ (الرحمن الرحيم) وهما اسمان في أعظم مراتب الرجاء قال تعالى : (مالك يوم الدين) لما ادعى العباد أن لهم ملكاً في الدنيا عاملهم بقدرهم ومقتضى جهلهم ، وإلا فهو المالك في الابتداء والانتهاء ، ولم يذكر ملك الدنيا لأنها لا تعدل عنده جناح بعوضة ، فذلك استهانة بها ، وإظهار لحقارتها . وفيه تخويف للكافرين ، وتأمين للمؤمنين ، أي أن الله سبحانه ملك يوم الدين ، وهو الذي تنزل فيه الشمس بقدر ميل حتى يلجم العرق الناس ، ومع هذا يحاسب على مثاقيل الذر (لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ووجدوا ما عملوا حاضراً ولا يظلم ربك أحداً) فالمؤمن يستبشر بذلك ويعلم أن الله سبحانه وتعالى يعلم بخفيات أعماله الحسنة وظواهرها وصلاته تلك ، وهو فيها يعلم أنها ستعرض في ذلك اليوم عند أن يقول (مالك يوم الدين) يزيدها تحسيناً ، والكافر يزداد تهديداً وتوعيداً
ثم قال : (إياك نعبد وإياك نستعين) أي لا نعبد إلا إياك ، ولا نستعين إلا بك في عبادتنا إياك (اهدنا الصراط المستقيم) الصراط المستقيم : هو صراط الله أي الموصل إلى الله بسرعة ، لأنه لا اعوجاج فيه ، وأن هذا صراطي مستقيماً ، فإذا أحب الله شخصاً كان سمعه الذي يسمع به ، وبصره الذي يبصر به إلى آخره ، وسلك به صراطه المستقيم ، ثم صراطه المستقيم ، هو صراط الذين أنعم الله عليهم ، قال تعالى : (صراط الذين أنعمت عليهم) وهم الذي أحبهم الله وهداهم إلى الإسلام ، فقد أنعم عليهم بأعظم نعمة إذ لو أوجدك في دار كفر ما عرفت إلا ما هم عليه ، وكان عندك ما هم عليه هو الصراط المستقيم ، وقال تعالى : (غير المغضوب عليهم ولا الضالين) المغضوب عليهم فسرهم النبي r : بأنهم اليهود فهم مغضوب عليهم ، لأنهم ما عبدوا الله قبل ظهور النبي r إلا لما يطابق أهواءهم ليس لله خالصة إذ لو كانوا مخلصين في عبادة الله من قبل ، لآمنوا بالنبي r ؛ لأنهم يجدونه مكتوباً عندهم ، وإبليس كان يعبد الله قبل خلق آدم ، لكن لحلاوة يجدها عند العبادة والتذاذ ، فلما أمره الله بالسجود لآدم لم يجد تلك الحلاوة واللذة ، فأبى واستكبر وكان إبعاده ولعنه ، وانقلبت أنواره ظلمة ؛ وحلاوته مرارة ، وقربه بعداً ، وإمهاله إنما هو في مقابلة ما عبد الله من قبل ، فهو كالخزي وقال رضى الله عنه : قال الله سبحانه وتعال : يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغنى الحميد والعبد مفتقر إلى سيده بقدر مطالبه ، فلا شىء فى الدنيا إلا والإنسان محتاج أليه ، لا تستقيم حياته إلا به . أول شىء : العافية أنت مفتقر إليه سبحانه وتعالى فى إعطائه إياك العافية ، ثم إذا صرت فى عافية فأنت محتاج إلى كل ما تستدعيه العافية ، من منكوح ومطعوم ، ومشروب وملبوس . ومحتاج إلى ذوق تأكل به المأكول وتشرب به المشروب ، وإلى شم تشم به المشموم وسمع تسمع به المسموع، وغير ذلك من جميع الجوارح والأعضاء ومحتاج على شمس وقمر ، ونجوم وسماء , ومطر ونبات ، ودواب وأنعام ، وبر وبحر بل إلى جميع ما فى السماوات وما فى الأرض التى هى مسخرات له فهو فى جميع ذلك مفتقر إلى ربه تعال ، ثم افتقاره فى الآخرة إليه أعظم من افتقاره إليه فى الدنيا ، لأن حاجته فى الآخرة أكثر وبقدر الحاجات يكون الافتقار .
وسئل :
رضى الله عنه : هل يؤخذ من قصة الخضر مع موسى عليهما الصلاة والسلام أن الحق يكون متعددا؟
فأجاب :
فقال : لا لنه لما كشف الحقيقة لموسى عليه السلام عما فعله ، صار الحق واحد عندهم ، وإنما كان إنكار موسى عليه السلام وهما منه أن ما فعله : الخضر غير الحق ، والوهم لا يكون حقا ، وإنما كان إنكار موسى عليه السلام لما غاب عنه ما وقع له من جنس تلك الحكمة الإلهية مرات ، فإنه وقع له فى المرة الولى : الإلقاء فى التابوت فى اليم ، وأمسك الله بقدرته الماء من دخوله إليه ، وأيضاً أمره الله تعالى ان يضرب البحر بعصاه فصار كل فرق كالطود العظيم ، حتى مر بنو إسرائيل ، وأيضا فإن الله تعالى أمسك على الحوت جرية الماء فصار عليه كاطاق ، فالقادر على ذلك قادر على إمساك الماء عن إغراق السفينة ، والخضر فعل ذلك بالسفينة مكافأة لأصحابها لأنهم حملوهم بغير نول ، فلما صارت فى صورة المعيبة تركها الملك ، وأخذ غيرها من السفن ، فكل من يريد ركوب البحر أو تحميل شىء فيه لم يجد غير تلك السفينة ، فكثر نولها ، وانتفع أهلها ، هذا معنى ما قاله . وفى الثانية : وقع لموسى عليه السلام قتل القبطى وكان قتله له بالحق فى نفس الأمر إلا أنه لم يؤمر بقتله ، ولما كان على غير أمر قال : ( رب إنى ظلمت نفسى فاغفر لى فغفر له ) فهو مصيب بقتله إذ هو مستحق للقتل فى علم الله ، فالله سبحانه وتعالى قتله بيد موسى وهذا أيضاً بالمعنى ، وفى الثالثة : سقى موسى لإبنتى شعيب عليهما الصلاة والسلام وهو لا يعرفهما ، وهو فى حاجة إلى الطعام ، ولم يطلب منهما أجراً ولا عول عليهما فى سد فاقته بشىء من الطعام ، أو شربة من لبن غنمهما ، بل وجه طلبه إلى الله تعالى ( فقال رب إنى لما أنزلت إلى من خير فقير) وجاء في الحديث : أنه ما طلب إلا الطعام فكأن لسان الخضر عليه السلام يقول له : أنت أنفت من طلب الأجرة على عملك من غير الله ، فكيف تخاطبني أن أطلب أجراً على عملي من غيره ، وما فعلته عن أمري .
وسئل :
رضي الله عنه : عن احتجاج آدم على موسى عليهما الصلاة والسلام وذلك لما اجتمع موسى مع آدم فقال له موسى : أنت الذي أخرجتنا ونفسك من الجنة ، فقال له آدم : أنت الذي اصطفاك الله برسالته وبكلامه ، وفي آخر هذا قال النبي r : " فحج آدم موسى "
فأجاب :
فقال ما معناه : تعرف من سؤال موسى ، وجواب آدم ، مقدار شفقة الوالد على ولده ورحمته له ، وأن الولد ليس فيه ذلك القدر لوالده ، فإنه قال له : أخرجتنا من الجنة بخطيئتك ، وفي هذه العبارة نوع من سوء أدب في خطاب الولد لوالده ، وكان في جواب الوالد ذكر فضيلة الولد ، والإعراض عن ذكر خطيئته ، بل أعلمه بما معناه : أنه لا وجه لإنكارك على مع علمك أنه كتب على قبل أن أخلق بكذا وكذا ([1]) من السنين ، ولم يقل له : لو كنت أنت لأخرجتنا بخطيئتك إخراجاً أعظم من إخراجي ، فإنك قتلت القبطي ولم تؤمر بقتله ، فخطيئتك تعدت إلى الغير ، وأما أنا فأكلت من شجرة ليس لأحد فيها حق غير الله تعالى ، لكن لما كان آدم – عليه السلام – متأدباً بآداب الله مع ما عنده من شفقة الوالد ، وهو عالم أن الله سبحانه وتعالى قد غفر لموسى ، وهو إذاً غفر لعبده لم يثربه فلم يحسن تثريب موسى بذكر خطيئة قد غفرت ، والاحتجاج بالقدر على الله هو الذي فيه خطر عظيم
ثم ذكر الحديث الذي معناه : أن الله تعالى يوقف عبداً يوم القيامة فيقرره بذنوبه فإذا قال العبد : أنت قدرت ، أمر به إلى النار ، نعوذ بالله منها ، وآخر يقرره الله تعالى على أفعاله فيعترف بها ويقول : يا رب فعلت وفعلت ، فيقول الله تبارك وتعالى : أنت فعلت ، وأنا قدرت ، ويأمر به على الجنة قال : هذا حفظ الله ، وأتى عمر رضي الله عنه بسارق ، فقال له : لم سرقت ؟ فقال : القدر ، فقال عمر : كذبت وأمر به فقطع ، فهذا من باب الاحتجاج على الله تعالى ، والاحتجاج بالقدر لا يسقط الحد
ومن إملائه رضي الله عنه من الأحاديث : عن النبي r : الحديث الأول : قال r : " أوحى الله إلى يا أخا المرسلين ، يا أخا المنذرين ، أنذر قومك أن لا يدخلوا بيتاً من بيوتي إلى بقلوب سليمة ، وألسنة صادقة ، وأيد نقية ، وفروج طاهرة ، ولا يدخلوا بيتاً من بيوتي ولأحد من عبيدي على أحد منهم ظلامة ، فإني ألعنه مادام قائماً بين يدي يصلي ، حتى يرد تلك الظلامة إلى أهلها ، فإذا فعل ذلك كنت سمعه الذي يسمع به ، وبصره الذي يبصر به ، ويكون من أوليائي وأصفيائي ، ويكون جاري مع النبيين والصديقين ن والشهداء في الجنة " أ .هـ .
الحديث الثاني : عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، أنه قال : جاء جبريل عليه السلام إلى النبي r ، فقال : ما جئتك حتى أمر الله بمفاتيح جهنم ، فقال رسول الله r : " يا جبريل ، صف لي النار / وانعت لي جهنم ، فقال رسول الله r أمر بجنهم فأوقد عليها ألف عام حتى ابيضت ، ثم أمر سبحانه وتعالى فأوقد عليها ألف عام حتى احمرت ، ثم أمر سبحانه وتعالى فأوقد عليها ألف عام حتى اسودت ، فهي سوداء مظلمة لا يضئ شررها ، ولا يطفأ لهبها ، والذي بعثك بالحق لو أن قدر ثقب إبرة فتح من جهنم ، لمات من في الأرض كلهم جميعاً من حره ، والذي بعثك بالحق لو أن ثوباً من ثياب أهل النار علق بين السماء والأرض ، لمات من في الأرض كلهم جميعاً من حره ، والذي بعثك بالحق لو أن حلقة من حلق سلسلة أهل النار التي نعت الله في كتابه وضعت على جبال الدنيا لا رفضت وما تقارت حتى تنتهي إلى الأرض السفلى ، والذي بعثك بالحق لو أن خازناً من خزنة جهنم برز إلى أهل الدنيا فنظروا إليه لماتوا جميعاً من قبح صورته ، ونتن ريحه ، فقال رسول الله r : حسبي يا جبريل ، لا ينصدع قلبي فأموت ، فبكى جبريل عليه السلام ، فنظر إليه رسول الله r وهو يبكي ، فقال : تبكي يا جبريل وأنت من الله بالمكان الذي أنت به ، فقال جبريل : ومالي لا أبكي ؟ أنا أحق بالبكاء ، وما أدري لعلي أكون في علم الله على غير الحال التي أنا عليها ، وما أدري لعلي أبتلي بما ابتلي به إبليس فقد كان من الملائكة ، وما أدري لعلي أبتلي بما ابتلي به هاروت وماروت ، فبكى رسول الله r وبكى جبريل ، فما زالا يبكيان حتى ناداهما الحق : يا جبريل ، ويا محمد ، إن الله قد أمنكما أن تعصياه ، فارتفع جبريل ، وخرج رسول الله r ، فمر بقوم من الأنصار يضحكون ويلعبون ، فقال رسول الله r : أتضحكون ووراءكم جهنم ؟ لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً ، ولما اسغتم الطعام والشراب ، ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله ، فناداه الحق : يا محمد ، لا تقنط عبادي " رواه الطبراني في الأوسط
وفي الحديث القدسي : " يا عبادي ، أعطيتكم فضلاً ، وسألتكم قرضاً فمن أعطاني شيئاً مما أعطيته طوعاً عجلت له الخلف في العاجل ة، وادخرت له الثواب في الأجل ، ومن أخذت منه شيئاً مما أعطيته كرهاً فصبر واحتسب ، أوجبت له صلاتي ورحمتي ، وكتبته من المهتدين ، وأبحت له النظر إلى وجهي " : (وفيه أيضاً) " من أكرم منى جوداً ؟ أكلؤهم في مضاجعهم كأنهم لم يعصوني ، ومن أكرم مني ؟ أقبل التائب كأنه لم يزل تائباً " وجاء رجل إلى النبي r ، فقال له النبي r " جئت تسألني عن سعة رحمة ربي ؟ وأخبره بقول الله عز وجل : لو كنت معجلاً لأحد العقوبة ، أو كانت العجلة من شأني لعجلت للقانطين من رحمتي ، يذنب أحدهم ذنباً فيستعظمه في جنب عفوي ، فلو لم أذكر لعبادي إلا خوفهم من الوقوف بين يدي لشركت ذلك لهم ، فجعلت ثوابهم من ذلك الأمن مما خافوا " وقال r : " أتاني جبريل عليه السلام ، فعلمني الصلاة فقرأ بسم الله الرحمن الرحيم ، فجهر بها " من الجامع الكبير للسيوطي . وقال عليه أفضل الصلاة والسلام لابن عمر رضي الله عنه : " يا ابن عمر ، لا يغرنك ما سبق لأبويك من قبلي ، دينك دينك ، إنما هو لحمك ودمك ، فانظر عمن تأخذ ، خذ عن الذين استقاموا ، ولا تأخذ عن الذين قالوا " وقال r : " من قطع رجاء من ارتجاه قطع الله رجاءه منه يوم القيامة ، فلم يدخله الجنة " وقال r : " من عاد مريضاً فأكل عنده ، فذلك حظه من عيادته "
وقال r : " إن السائل لا يسأل وما هو بإنس ولا جان ، وإنه من ملائكة ربنا يختبر العباد فيما خولهم الله تعالى " قال r : " أصدق الحديث ما عطس عنده " (ما يقال عند الوضوء) بسم الله العظيم والحمد لله على الإسلام (وعند الاستنجاء) اللهم حصن فرجي ، واجعلني من الذين إذا ابتليتم صبروا ، وإذا أعطيتهم شكروا (وعند المضمضة) اللهم أعني على تلاوة ذكرك ، ولقني حجتي (وعند الاستنشاق|) اللهم لا تحرمني رائحة الجنة (وعند غسل الوجه) اللهم بيض وجهي يوم تبيض وجوه وتسود وجوه (وعند غسل اليد اليمنى) اللهم أعطني كتابي بيمينى ، وحاسبني حساباً يسيراً (وعند غسل اليد اليسرى) اللهم لا تعطني كتابي شمالي ولا من وراء ظهري (وعند مسح الرأس) اللهم غشني برحمتك (وعند مسح الأذنين) اللهم اجعلني من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه (وعند غسل الرجلين) اللهم ثبت قدمي على الصراط يوم تزل الأقدام
وعند الفراغ سبحانك اللهم وبحمدك أستغفرك وأتوب إليك ، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، أشهد أن محمداً عبده ورسوله ، اللهم اجعلني من التوابين ، واجعلني من المتطهرين ، واجعلني من عبادك الصالحين ، الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون ، ثم يقرأ آية الكرسي لأنه ورد : من قرأ آية الكرسي عقب الوضوء : زوجه الله أربعين حوراء ، وأعطاه ثواب أربعين عالماً ، ثم يقرأ : إنا أنزلناه ثلاث مرات .
ما يقال عند الخروج إلى المسجد اللهم إني أسالك بحق السائلين عليك ، وبحق ممشاي هذا إليك ، فإني لم أخرج بطراً ولا أشرا ولا رياء ولا سمعة ، خرجت اتقاء سخطك ، وابتغاء مرضاتك ، أسألك أن تعيذني من النار ، وأن تغفر لي ذنوبي ، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت ، فمن قالها أقبل الله عليه بوجهه ، ومن أقبل عليه بوجهه لم يعذبه أبداً ، ووكل به سبعين ألف ملك يستغفرون له ، انتهى (ومن الأدعية الواردة بعد صلاة الجمعة) سبحانه الله وبحمده ، سبحان الله العظيم ، أستغفر الله (مائة مرة) ، أعوذ بوجه الله الكريم ، الذي ليس شئ أكرم منه ، وبكلمات الله التامات التي لا يجاوزنهن بر ولا فاجر ، وبأسماء الله الحسنى كلها ما علمت منها وما لم أعلم ، من شر ما ينزل من السماء ، وشر ما يعرج فيها ، وشر ما ذرأ في الأرض ، وشر ما يخرج منها ، ومن فتن الليل والنهار ، ومن طوارق الليل إلا طارقاً يطرق بخير يا رحمن
ومما أرشد إليه رضي الله عنه : يا لطيف (ألف مرة) ، ثم تقول بعد كل مائة : الطف بي في أموري كلها كما تحب وترضى ، وأرضني في ديني وبدني ودنياي وآخرتي يا ذا الجلال والإكرام ، اللهم يا لطيف |، لطفت بخلق السماوات والأرض ، ولطفت بالجنين في بطن أمه ، الطف بي في قضائك وقدرك لطفا يليق بجلالك وكرمك ، يا أرحم الراحمين ، ويا رب العالمين ، ويا أكرم الأكرمين
وقال رضي الله عنه : ينبغي للإنسان أن لا يترك صلاة الخيرة في كل يوم بعد صلاة الإشراق ، ثم يقول الدعاء المأثور عن النبي r ، في جميع أركان الصلاة ، كصلاة التسبيح ويكون لفظ المستخار فيه بعد لفظ الاستخارة ، اللهم ما علمت من جميع كلامي ، وحركاتي ، وسكناتي ، وخطواتي ، وأنفاسي كلها دائماً سرمداً أبداً في يومي هذا وما بعده ، إلى انقضاء أجلي خيراً لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمرى فاقدره لي ويسره لي ، ثم بارك لي فيه ، اللهم وما علمت من جميع ذلك شرا لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري فاصرفه عني واصرفني عنه ، واقدر لي الخير حيث كان ثم أرضني به . انتهى . وطلب بعض أصحاب سيدي أحمد بن إدريس رضي الله عنه ، أن يكتب له كلاماً ينفعه الله به فكتب له : بسم الله الرحمن الرحيم ، وصلى الله على مولانا محمد وعلى آله في كل لمحة ونفس عدد ما وسعه علم . (أما بعد) : فالأمر الجامع والقول النافع ، والسيف القاطع ، في طريق الله تعالى ، إن على العاقل الذي يريد نجاة نفسه من جميع المهالك ، ويحب أن يدخله الله تعالى في سلك المقربين في جميع المسالك إذا أراد أن يدخل في أمر من أموره قولاً أو فعلاً ، فليعلم أن الله تعالى لابد أن يوقفه بين يديه تعالى ، ويسأله عن ذلك الأمر فليعد الجواب لسؤال الحق تعالى قبل أن يدخل في ذلك الأمر ، فإن رأى الجواب صواباً وسداداً يرتضيه الحق تعالى ، ويقبله منه فليدخل في ذلك الأمر فعاقبته محمودة دنيا وأخرى ، وإن رأى أن ذلك الجواب لا يقبله منه تعالى ولا يرتضيه فليشرد من ذلك الأمر أي أمر كان ؛ فإنه وبال عليه إن دخل فيه . وهذه القاعدة هي أساس الأعمال والأقوال كلها ، فمن تحقق بها ورسخ فيها كانت أحواله كلها مبنية على السداد ظاهراً وباطناً لا يدخلها خلل بوجه من الوجوه ، وهذا معنى قول الني r : " حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ، وزنوها قبل أن توزنوا "
القاعدة الثانية : أن لا يفعل فعلاً ولا يقول قولاً حتى يقصد به وجه الله تعالى ، فإن صحح القصد فيه لوجه الله تعالى ، وغسل قلبه من كل شائبة لغير الله تعالى ، صار لا يتكلم ولا يفعل فعلاً إلا عن تثبت وتأن ، وصارت أعماله كلها دقيقاً خالصاً لا نخالة فيه بوجه من الوجوه ، وهذا معنى قول خالقنا جل وعلا لرسوله الأعظم وحبيبه الأكرم r : (واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والغشي يريدون وجهه) أي لا غيره في جميع أمورهم وقال عز وجل : (وما لأحد عنده من نعمة تجزى إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى ولسوف يرضى)
القاعدة الثالثة : أن يوطن قلبه على الرحمة لجميع المسلمين : كبيرهم وصغيرهم ويعطيهم حق الإسلام من التعظيم والتوقير ، فإن رسخ في هذه القاعدة قلبه واستقاه فيها أفاض الله على سائر جسده أنوار الرحمة الإلهية وأذاقه حلاوتها ، فنال من الإرث النبوي حظاً وافراً عظيماً من قول الله عز وجل : (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) وهذا معنى قول النبي r : " إن لله عز وجل ثلاث حرمات فمن حفظهن حفظ الله عليه أمر دينه ودنياه ، ومن لم يحفظهن لم يحفظ الله عليها شيئاً : حرمة الإسلام ، وحرمتي ، وحرمة رحمي " وهذا معنى قول النبي r لأبي بكر الصديق رضي الله عنه : " لا تحقرن أحداً من المسلمين فإن صغير المسلمين عند الله كبير "
القاعدة الرابعة : مكارم الأخلاق التي بعث رسول الله r لإتمامها ، لقوله r : " إنما بعث لأتمم مكارم الأخلاق " وهذه القاعدة هي زبدة الدين وحقيقتها : أن يكون العبد هيناً لينا مع أهل بيته وعبيده وجميع المسلمين قال رسول الله r : " أهل الجنة : كل هين لين سهل قريب ، وأهل النار : كل شديد قبعثري " ، قالوا : يا رسول الله ، وما قبعثري ، قال : الشديد على الأهل ، الشديد على الصاحب ، الشديد على العشير " وقال مولانا العظيم : (وقولوا للناس حسنا) أي لا قبحاً ، وقال عز وجل : (وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن) والأحسن : هو الذي جمع الحسن وزيادة
وبالجملة : فالذي تحب أن يواجهك الناس به من الكلام الطيب ، والقول الحسن والفعل الجميل ، فافعله مع خلق الله تعالى ، وما تكره أن يعاملك العباد به من الكلام الخبيث ، والقول القبيح ، والفعل الكريه ، فاترك الناس والخلق منه ، فإن الله عز وجل يعامل العبد بوصفه ، وخلقه الذي يعامل به الناس فإن المجازاة على الوصف بالوصف جزاء وفاقاً ، فمن كان للخلق جنة ورحمة وظلاً ظليلاً يستريحون فيه ، كان الله له كذلك ، فمن أكرم عبداً لمراعاة سيده فإنما أكرم السيد نفسه ، ولذلك جاء في الحديث عن الله تعالى ، أنه يقول للعبد يوم القيامة : " جعت فلم تطعمني ، واستسقيتك فلم تسقني ، ومرضت فلم تعدني ، فيقول العبد : كيف تجوع وأنت رب العالمين ؟ وكيف تمرض وأنت رب العالمين ؟ وكيف تستسقى وأنت رب العالمين ؟ فيقول له سبحانه مفسراً لذلك : أما إنه مرض عبدي فلان فلو عدته لوجدتني عنده ، وجاع عبدي فلان ، أما إنك لو أطعمته لوجدت عندي ، واستسقاك عبدي فلان ، أما إنك لو أسقيته لوجدت ذلك عندي " ففسر سبحانه نفسه قوله : جعت ومرضت واستسقيتك ، بقوله : جاع عبدي فلان ، ومرض عبدي فلان ، واستسقاك عبدي فلان ، فمعاملة العبد لملاحظة سيده هي معاملة السيد بلا شك ، فمن رسخ قدمه في هذا المقام وصارت معاملته مع الحق تعالى جل جلاله في كل شئ ، فلا يراقب غير الله تعالى ، ويجمع مكارم الأخلاق مع الله تعالى ، ومع عبادة قول النبي r : " أكرموا الله تعالى أن يرى منكم ما نهاكم عنه " وهو أن لا يراك سبحانه حيث نهاك ، ولا يفقدك حيث أمرك
والأمر الذي يبعث العبد على الحياء من الله تعالى ، هو أن يعلم علم حضور أن الله على كل شئ رقيب ، وعلى كل شئ شهيد ، وهو قوله تعالى (واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه) فإذا شغل العبد قلبه بهذه المراقبة ، واستعملها حتى اعتادها وألفها ، ألزمه الحياء من الله تعالى ، أن لا يقول قولاً ولا يفعل فعلاً لا يرضاه الله تعالى ، ولا يليق بجلاله ، وهو حاضر القلب (وهو معكم أينما كنتم) بأن الله تعالى معه وناظر إليه ، فإن العبد إذا أراد أن يزني مثلاً أو يسرق ، والناس ناظرون إليه لا يقدر أن يقدم على ذلك مع علمه بنظر الناس إليه ، ويستقبح ذلك من نفسه ويستخبثه ، فإذا كان الحال هكذا مع المخلوق الذي لا يملك ضراً ولا نفعاً ، والحامل له على ذلك كله مخافة أن يسقط من أعين الناس ، وينحط قدره عندهم ، فلا شك أنه إذا كان حاضر القلب عند الشروع في الفعل الذي لا يرضاه الله تعالى ، ترك ذلك الفعل قطعاً وهذا معنى قول النبي r في الإحسان : " أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك " فمن كان بهذه الحالة لزمه أن يحسن تلك العبادة ، ويتقنها على قدر قوة علمه أن الله ناظر إليه فيها .
وسئل :
رضي الله عنه : هل يلزم الإنسان الاختبار إذا أحس بشئ خرج من ذكره وهو في الصلاة ؟
فأجاب :
فقال : لا يلزمه ذلك ولا ينبغي له أن ينقض وضوءه بمجرد الشك ، بل يبقى في صلاته ولا ينصرف منها لعدم اليقين ، لأن اليقين لا يحصل إلا بالاختبار ، والاختبار متعذر وهو في الصلاة ، ثم بعد فراغه من الصلاة يختبر ، فإن وجد ذلك حقاً أعاد الوضوء والصلاة ، وإن لم يجد فلا اعتبار بالشك الواقع في الصلاة ، لأنه انكشف خلاف ما خيل
وسئل :
رضي الله عنه : عن الدعاء في الصلاة هل يأتي به بصيغة الجمع إذا كان إماماً ولو كان وارداً عن النبي r بصيغة الإفراد مثل " اللهم أعط نفسي تقواها ، وزكها أنت خير من زكاها أنت وليها ومولاها " ونحو ذلك فيقول :/ اللهم أعط أنفسنا ؟
فأجاب :
فقال : أئت بصيغة الجمع وإن كان وارداً بصيغة الإفراد ؛ لأن في الحديث " من أم قوماً فأفرد دونهم نفسه فقد خانهم " وعن ثوبان رضي الله عنه قال : قال رسول الله r : " ثلاث لا يحل لأحد أن يفعلن : لا يؤم رجل قوماً فيخص نفسه بالدعاء دونهم ، فإن فعل فقد خانهم ، ولا ينظر في قعر بيت قبل أن يستأذن ، فإن فعل فقد دخل خائناً ، ولا يصلي وهو حاقن حتى يتخفف " رواه أبو داود واللفظ له ، والترمذي وابن ماجه وحديثه مختصر : وقال الترمذي : حديث حسن ، ورواه أبو داود – أيضاً – من حديث أبي هريرة . ومنها : أن يسأل الله تعالى بعزم ورغبة ، وحضور قلب ورجاء ، قال الله تعالى : (إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغباً ورهباً وكانوا لنا خاشعين) والنبي r وإن أتى بصيغة الإفراد فهو روح كل مؤمن ، ففي الحديث عن النبي r قال : " ما دخلت شوكة في رجل أحدكم إلا وجدت ألمها " وأيضاً إذا كان الإنسان منفردا يأتي بصيغة الجمع ، وينوي المسلمين وهو أولى ، هذا معنى ما ذكره ، أعاد الله علينا من بركاته . آمين
وسئل :
رضي الله عنه : ما الفرق بين الظن الذي هو أكذب الحديث والذي لا يغني من الحق شيئاً ، وبين الظن الذي في قوله تعالى في الحديث القدسي : " أنا عند ظن عبدي بي فليظن بي عبدي ما شاء " ؟
فأجاب :
إن الله سبحانه وتعالى لا يعلم أحد ما عنده ، ولا يدري ما يفعل به ، فإذا ظن به عبده خيرا حققه الله ، فكيف إذا تحقق العبد في الله خيرا فهو سبحانه وتعالى يحقق لعبده ظنه ، ولا تسأل عمن علم في الله ، وعلم بالله حق علمه ، سبحانه ما أكرمه
وسئل ة:
رضي الله عنه : عن القراءة خلف الإمام هل لابد منها ، أم قراءة الإمام له قراءة ؟
فأجاب :
بأنه لا يقرأ خلف الإمام إلا الفاتحة ، لما في الحديث أنه عليه الصلاة والسلام قال : " لعلكم تقرؤن ورائي ، قالوا : إنا نفعل ، قال : لا تفعلوا إلا بأم القرآن فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها " ولم يفرق النبي r بين أن يكون إماماً ، أو مؤتماً ، أو منفرداً ، وفي الأصل : أن الصلاة مناجاة بين العبد ورب ، ولا تكون مناجاة الإمام مناجاة عن المؤتم ، قال تعالى : (وأن ليس للإنسان إلا ما سعى) إنما الإمام يكون شفيعاً لقوله r : " ائمتكم شفعاؤكم فانظروا لأنفسكم شفعاء " وأيضاً فإن في الحديث القدسي : " قسمت الصلاة بيني وبين عبدي فإذا قال : بسم الله الرحمن الرحيم ، قال الله : ذكرني عبدي ، وإذا قال : الحمد لله رب العالمين قال : حمدني عبدي ، وإذا قال : الرحمن الرحيم ، قال : اثنى علي عبدي ، وإذا قال : مالك يوم الدين ، قال : مجدني عبدي ، وإذا قال : إياك نعبد وإياك نستعين ، قال : هؤلاء بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل ، وإذا قال : اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين ، قال : هذا لعبدي ولعبدي ما سأل " فجعل سبحانه وتعالى الصلاة هي الفاتحة لأنه قال : قسمت الصلاة بين وبين عبدي ، ولم يذكر إلا الفاتحة مع أن الصلاة أذكار وأركان فهو كقول النبي r " الحج عرفة " مع أن أعمال حجم كثيرة لكن الوقوف لا يتم الحج إلا به ، وإذا لم يقف بعرفة لا يسمى حجاً ولو فعل أعمال الحج جميعها ، كذلك الفاتحة في الصلاة
وقال رضي الله عنه : لما أراد الله سبحانه وتعالى أن يحرض عبيده على إنفاق المال في الصدقة ، ويرغبهم في ذلك ، قال تعالى : (وأتوهم من مال الله الذي آتاكم) فأضاف المال إليه سبحانه ، لأن السيد إذا قال لعبده : أنفق من مالي والخير عائد عليك في إنفاقه ، كان ذلك ترغيباً له في إنفاقه ، لأن الإنفاق من مال غيره والخير عائد عليه ولما أراد سبحانه وتعالى أن يحرضهم على حفظه عن الإتلاف ، قال سبحانه : (ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياماً) فأضاف المال إلى العباد إضافة ملك ، ليكونوا أشد حرصاً عليه ، سبحانه وتعالى ما ابلغ كلامه ، رزقنا الله التدبر لمعانيه
وقال رضي الله عنه : في قول الله سبحانه وتعالى في الحديث القدسي : " الصوم لي وأنا أجزي به " أي إن الصوم صفة من صفاتي ، كما قال تعالى : " وهو يطعم ولا يطعم ) وفي الحديث : " تخلقوا بأخلاق الله تعالى " فأمر سبحانه وتعالى عبيده أن يتخلقوا بهذه الصفة وهو عدم الطعم للطعام ، وفي وقت مخصوص ، فقوله : الصوم لي أي هو في الحقيقة لي ، لأني أطعم ولا أطعم وأنا أجزي به ، أي أنا جزاؤه لأنه تخلق بخلقي ، فجعلت جزاءه النظر إلى فأنا جزاؤه ، فإن رجلا قال للنبي r : أوصني ، فقال له : " عليك بالصوم : فإنه لا مثل له " فلو لم يكن تفسير هذا الحديث كذلك لتعطل المعنى ، تعالى الله علواً كبيراً ، إذ لو كان معناه على ظاهره لكان مثل سائر الأعمال ، لأن الأعمال كلها لله ، وهو سبحانه وتعالى يجزي بها
وقال رضي الله عنه : أنزل الله القرآن محكماً ومتشابهاً ، فالمحكم : أوضح من الشمس ، قال تعالى : (هذا بيان للناس وهدى) وقال تعالى : (قد بينا الآيات لقوم يعقلون) وقال تعالى : (فألهمها فجورها وتقواها) أي بين لها طريق السعادة وضدها ، وقال تعالى : (وهديناه النجدين) أي بينا له النجدين ، وإذا أشكل منه شئ لقلة فهم ، فقد أمر سبحانه ورسوله أن يبينه للناس ، قال تعالى : (وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون) فبين r في السنة ما بينه ، وما لم يبينه فليس لنا أن نبحث عنه . وأما المتشابه : فأنزله تعالى ليختبر به عبيده وهو أعلم بهم ، فمنهم : من يتبع ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله ، وما يعلم تأويله إلا الله ، ومنهم : من يؤمن به على الجملة فيقولون : آمنا به كل من عند ربنا ، وهم الراسخون في العلم ، والذين ينظرون في متشابه ويحرمون حلاله ، إنما هم يتكلفون ما لا يعينهم ، ويقولون على الله ما لا يعلمون ، ويفترون على الله الكذب ، ولو قيل لأحدهم : أتحلف بالله العظيم ، وطلاق امرأتك ثلاثاً ، أنا ما فسرت به هذه الآية التي هي من المتشابهات ، هو مراد الله ؟ لرجع عن ذلك خوف أ، تطلق امرأته فيصير زانياً ، ولم يعلم أنه قد كفر . قال الله تعالى : (إنما يفترى الكذب الذي لا يؤمنون بآيات الله وأولئك هم الكاذبون) وقال تعالى : (إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون متاع قليل ولهم عذاب أليم) فهذا الذي خاض فيما لا يعنيه ما علم تفسير تلك الآية التي هي من المتشابهات ، إنما هو من عند نفسه وليس معه دليل من السنة ، ولا هو مبين من عند الله ، فليته كان من أهل الدرجة الثالثة ، وهي : لا أدري لأن في الحديث : " من كذب على متعمداً ليتبوأ مقعده من النار ومن سمع شئ مني فرده فأنا خصمه يوم القيامة " وفي الحديث عن النبي r : " العلم ثلاثة : آية محكمة ، وسنة ماضية ، ولا أدري "
وقال رضي الله عنه : سبب اندراس الإسلام خوض الناس فيما لا يعنيهم ، فأكثروا الرسوم في العلوم والكتب المؤلفات ، في بيان أشياء ما أمرنا أن نتكلف بها ، ولا نبحث عنها ، كالعلم باليد في قوله تعالى : (يد الله فوق أيديهم) وقوله تعالى : (بل يداه مبسوطتان) وهذا لا ينبغي ولا يجوز الخوض فيه ، ويجب أن لا نتكلم فيه بشئ أبداً ، فإن الله سبحانه وتعالى جعل للرحمة يدين ، فقال سبحانه : (وهو الذي يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته) وجعل للنجوى يدين فقال تعالى : (يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة) فيد الرحمة ويدا النجوى لا يعلم كيفيتهما إلا الله سبحانه وتعالى ، فما ظنك في العلم بكيفية يد الحق سبحانه وتعالى ، آمناً بالله . فهي كما يليق بجلاله وجماله وكماله ، فالخوض في مثل هذا أعظم الخطر ، قال الله تعالى حاكياً عن أهل النار لما قيل لهم : (ما سلككم في سقر قالوا لم نك من المصلين ولم نك نطعم المسكين وكنا نخوض مع الخائضين) فتأمل ما أخطر الخوض مع الخائضين ، وهذا من جملة الخوض الذي هو إلى الهلاك أقرب بل هو عين الهلاك
وقال رضي الله عنه في معنى : سبحان الله وبحمده سبحان الله : منصوب بفعل محذوف أي أسبحه تسبيحه الذي يعلمه لنفسه ، ويليق بجلاله ، وكما يسبح به نفسه وبحمده : متعلق بفعل محذوف ، يعني : وأحمده بحمده كما يليق بجلاله ، كما قال r : " لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك "
وقال رضي الله عنه : رأى بعض الصالحين من أولياء الله تعالى في المنام الحق جل وعلا ، فقال له : يا إلهي وسيدي ، أكرمت الرسل صلوات الله عليهم أجمعين بالوحي والمناجاة ، فاجل لي شيئاً يكون بيني وبينك من غير واسطة ، فقال سبحانه : من أحسن إلى من أساء إليه فقد أخلص لله شكراً ، ومن أساء إلى من أحسن إليه فقد أبدل نعمة الله كفراً ، وهذا من أعظم الفوائد من عمل به أرشده الله إلى الخيرات ، والمحسنون إليك قد يكونون من جنسك ، ومن غير جنسك ، وذلك الإحسان كله هو بتسخير من المحسن الكريم الأعظم ، فما سخر لك سبحانه وتعالى دابتك وعبدك وجاريتك فدابتك محسنة إليك بحملها لثقلك ، وحملك على ظهرها ، وتطيعك أينما وجهتها ، فإحسانك إليها أن تشبعها من رزق الله ، وتسقيها ولا تحملها زائداً على جهدها ، ولا تضربها لتسير سيراً فوق ما تطيق ، فإن فعلت فقد أسأت إليها وإن أسأت إليها فأنت داخل فيمن أساء إلى من أحسن إليه وبدلت نعمة الله كفراً ، نسأل الله العافية والسلامة ، وكذلك العبد وهو أيضاً مختص بشئ وهو قول النبي r : " خادم القوم سيدهم " فكيف إذا أسأت إلى سيدك المحسن إليك ، وبدلت نعمة الله كفراً ؟
وقال رضي الله عنه : قال الله تعالى : (وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها) ولم يقل نعم الله أي لا تحصوا نعمة واحدة أنعمها عليكم ، فانظر إلى نعمة الحب فإن الله سبحانه وتعالى رزقك إياه وأنعم عليك به ، وأنت تنظره موجوداً بعد أن كان في العدم ، ولا تدري كيف وجوده ، ولو تفكرت لعرفت مقدار نعمته ، فإن الله سبحانه وتعالى أولاً : أمر الأرض فخدمته بأن حفظته في بطنها ، ثم أمر السحاب فخدمته بأمطارها ، ثم أمر المطر فخدمه بسقيه إياه ، ثم أمر الشمس فخدمته بإنضاجها إياه ، ثم أمر الريح فخدمته بتلقيحها إياه ، ثم خدمه الحديد لأن منه آلات الزراعة ، ثم خدمته البقر وغير ذلك حتى حصل فسبحان الله وتعالى سخر له بركة السماء والأرض ، وما أهانه قوم إلا سلط عليهم الجوع " ومن نعمة الله سبحانه وتعالى ، أن جعل رزقك يتبعك أينما كنت ، إذ لو كان في محل واحد وأنت تقصده لكان ذلك هو العذاب الشديد ، فإنك إذا رحلت من بلدك – مثلاً – إلى مكة فرزقك فهو مقسوم مكتوب ، وما كتب لك سوف يأتيك .
ألا ترى أنك تشرب – مثلاً – شربة من زمزم وهو سبحانه قد قسمها لك ، وعلمها منحازة عما خالطها من المياه في جوف البئر فيعلم أن هذه الجرعة في هذا الدلو هي رزق لفلان ، وهذه تراق على الأرض ، وهذه تعود إلى البئر ، يعلم ذلك سبحانه مقسماً قبل أن يوجده من العدم ، فيسوق إليك منه رزقك وأيضاً يأتيك رزقك إليها من الهند ، ومن الروم ، ومن الطائف ، فهذه رمانة قسمت لك رزقاً قبل وجودها وقبل وجودك ، فساقها إليك ، وهذا صاع من رزق ساقه إليك من الهند وغير ذلك إذ لو كلفت أ، تحمل جميع رزقك : من ماء ، وحطب ، وعلف ، وحب وجميع ما تحتاجه من بلدك ، وهو بالغرب مثلاً إلى مكة لاستغرق أكثر جمال الأرض . رجل واحد إذا أراد مثلاً أن يسكن في مكة عشر سنين ، أو سنتين ، أو سنة وهذا هو العذاب الشديد ، فسبحان المتفضل ما أكرمه ، ومن النعم : الجوارج التي أودعها فيك والحواس ، فإنك لا تعرف نعمة النظر إلا إذا فقدته ، ولو كان معك ملك الدنيا بأجمعها ، وقيل لك : اختر رجوع نظرك ، ويؤخذ الملك منك أو يبقى الملك في يدك مع فقد نظرك لاخترت النظر ، ولكنك لم تعلم بقدره عند وجدانه ، وكل شئ ما يعرف إلا بضده ، وبضدها تتميز الأشياء ولكن لا ينفع الاعتراف بالنعم عند فقدانها . ثم قال : اللهم اجعلنا ممن اعترف بنعمك عند وجودها ، وأوزعنا شكرها .
وقال رضي الله عنه : " الدنيا سجن المؤمن " هذا الحديث معناه : أن المسجون لا يكون همه إلا الخروج من السجن ، كذلك المؤمن ليس همه إلا الخروج من الدنيا ، شوقاً للقاء ربه ، فإن النبي r لما نزلت عليه (إنك ميت وإنهم ميتون) سر بذلك سروراً عظيماً شوقاً إلى لقاء الله تعالى ، لأنه مشاهد للحق تعالى في كل حالة ، لكن سبحانه وتعالى متصف بصفات القهر والرحمة ، والعذاب في الدنيا ، والأخرى بالرحمة فقط ، فلذلك كل من أحب الله تعالى أحب لقاءه ، قال الله تعالى : (فتمنوا الموت إن كنتم صادقين) ولأن المؤمن مخاطب بمحاسبة النفس في الدنيا ، فلذلك كانت في حقه سجناً ، فإذا لم يكن كذلك فهو من نقص إيمانه ، لأنه مطمئن إلى الدنيا ، قال تعالى : (يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله أثاقلتم إلى الأرض أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة) ولم يقل منا ، إذ لو قال ذلك لانقشت قلوب الصحابة لقوة معرفتهم بالله تعالى ، فأدبهم تأديباً لطيفاً بدمعة لا تفضي إلى الهلاك ، ومعنى الآية . ما لكم إذا قيل لكم أي نقول لكم تعالوا إلينا قاتلوا في سبيل الله ؟ فإما أن ننصركم ، وإما أن تقتلوا فتلقوا ربكم الذي هو منتهى بغية المؤمنين ، وبقدر حبكم للقائه يكون حبه للقائكم ، ففي الحديث : " من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه " أثاقلتم إلى الأرض أي اطمأننتم إليها أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة ورغبتم عن لقاء ربكم ؟ (فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلى قليل) فقالت عائشة رضي الله عنها : يا رسول الله ، كلنا نكره الموت ، فأجاب : إن تلك الكراهة من جهة الروح لأنها قد انست بالجسد وألفته ، ومفارقة المألوف صعب ، مع أنها في أول الأمر ما قنصت إلى قفص الجسد إلا ولها صياح ، ولولا الامتثال لأمر الله تعالى على قدر على اصطيادها الملائكة الموكلون بأن يدخلوها إلى الجسد ، لأنها مطلقة في رياض الروحانيين ، فحبست في قفص الجسد ، ثم أنست به واطمأنت به وألفته ، حتى إنها تعانقه عند الموت من شدة شغفها به ، كما يعانق المحبوب محبوبه عند فراقه ، وربما يمنى ولذلك شرع غسل الميت
وقال رضي الله عنه : قال الله تعالى : (وذا النون إذ ذهب مغاضباً فظن أن لن نقدر عليه فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين)
فقوله (فظن أن لن نقدر عليه) أي نضيق عليه ، كقوله تعالى : (وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه ) أي ضيق عليه رزقه ، وقوله تعالى : (يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر) لأنه لا يظن أحد أن الله لا يقدر عليه ، فما ظنك بالنبي ، ثم لما ظن هذا الظن ضيقنا عليه في ظلمات ثلاث : لأنه أوقف الرحمة عليه ، ولم يطلقها عليه وعلى قومه ، فضيقنا عليه ووسعنا على قومه ، قال تعالى : (إلا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ومتعناهم إلى حين) فهم ممتعون باقون في الحياة ، ولكن هذا التضييق من الحق تعالى لنبيه يونس عليه الصلاة والسلام ، هو عين التوسيع لأنه تأديب ، وأي توسيع أعظم من تأديب المولى لعبده ، به الفوز والفلاح والنجاة
ومن فوائده رضي الله عنه في الطب : أن الحنظل دواء للدغ العقرب إما ورقه أو ثمره وإذا خلط بزبل الحمام كان أعظم في النفع ، وكذلك من أدويته – أيضاً – عود القرح ، وللدغ الحية النوشادر ، وإذا كان الإنسان أو غيره حاملاً للنوشادر لا تلسعه الحية أبداً ، بل لا تقربه بإذن الله ، ومما ينفع للغدة العقرب – أيضاًَ – الريال إذ حك على ماء ثم لطخ به موضع اللدغة ثم يربط عليه فإنه نافع
وقال رضي الله عنه : لما أرسل الله موسى عليه الصلاة والسلام إلى فرعون ، كان السامري يتشبه بموسى بين يدي فرعون ، ليضحكه استهزاء منه واستهانة ، فبسبب هذا التشبه على هذا الوجه نجاه الله من الغرق فلم يغرق مع فرعون وأصحابه ، هذا بمجرد التشبه ، والحال أنه على وجه الاستهانة والاستهزاء ، فكيف إذا كان على غير هذا الوجه ؟ وكيف إذا كان بحسن نية ولو لم يقم بالعمل ؟. قال الشاعر
فتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم ** إن التشبه بالكرام فلاح
وقال رضي الله عنه : النكتة في إيراد قصة الهدهد في سورة النمل قول سليمان عليه الصلاة والسلام : (يا أيها الناس علمنا منطق الطير وأوتينا من كل شئ إن هذا لهو الفضل المبين) فقوله وأوتينا من كل شئ ، فيه نوع زهو ، ونزر يسير من رائحة فخر خفي ، فأجرى الله سبحانه وتعالى على لسان الهدهد : (أحطت بما لم تحط به) تأديباً له عليه الصلاة والسلام بهذا التبكيت ، ثم أنطق الله سبحانه وتعالى هذا الهدهد بقوله : (ألا يسجدوا لله الذي يخرج الخبء في السماوات والأرض ويعلم ما تخفون وما تعلنون) فأخرج الله سبحانه وتعالى الخبء الذي في طي كلام سليمان عليه الصلاة والسلام بقصة الهدهد ، وأتى من صفات الحق تبارك وتعالى بقوله : الذي يخرج الخبء ، ولما تأدب عليه الصلاة والسلام بآداب الحق جل وعلا ، قال لما رأى عرش بلقيس عنده ، قبل أن يرتد إليه طرفه وهذا الحد لا يتعذر دونه أبداً : (هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر) وأراد – أيضاً – أن يؤدب بقوله هذا أي قوله : ليبلوني أأشكر أم أكفر : آصف لئلا يستنفزه شئ من الشيطان لأنه قال : (آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك) فهو عليه الصلاة والسلام أضاف الضمير إلى نفسه ، وأراد به آصف ليؤدبه ، وهذا من ألطف العبارات ، فسبحان الله العظيم ، ما أبلغ هذا الكلام الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه
وقال رضي الله عنه : قال الله تعالى : (ففروا إلى الله) فأطلق المفرور منه وقيد المفرور إليه ، أي ففروا فراراً مطلقاً من كل شئ إلى الله ، حتى إنه بلغ الحال بأبي بكر الصديق رضي الله عنه ، لما قيل له : نأتي لك بطبيب ؟ قال : الطبيب أمرضني ، ففر من ألمه إلى الله سبحانه وتعالى ، فإذا أهمك أمر ففر منه إليه سبحانه ، فإذا سلط عليك – مثلاً – عدواً فإن قابلته بالحول والحيل والعدد ، وجعلتها مجردة للمدافعة فقد فررت من الله ، لأنه هو الذي سلط عليك ذلك العدو إلى ما معك من الجند والمال ، نسألك اللهم عافيتك . وإن جعلتها إنما هي أسباب وليطمئن بها القلب ، قال الله سبحانه : (إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين وما جعله الله إلا بشرى ولتطمئن به قلوبكم وما النصر إلا من عند الله إن الله عزيز حكيم) مع كونك معتقداً اعتقاداً تاماً أن النصر من عند الله ، وخرجت لقتال عدوك ، وأنت واثق بالله لا أنك معتمد على جندك أبداً ، فقد فررت من العدو إلى الله ، كذلك الفقر إذا ابتلاك به فإن فررت منه إلى قصد مخلوق أو إلى حرفة ، فقد فررت من الله إلى ، وسلكت معنى دعاء رسول الله r: " لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك " كنت فاراً من الفقر إلى الله سبحانه وتعالى ، فإن بعض أهل الحرف من الصالحين حدثته نفسه في بعض الأيام وهو شات شديد البرد : إن لم تداوم على حرفتك فمن أين تأكل ؟ فحلف أن لا يعطيها مما كسب من تلك الحرفة شيئاً إنما أبقى فيها لقضاء حوائج الناس منها ، فهذا معنى قوله تعالى : (ففروا إلى الله)
وقال رضي الله عنه : قال النبي r من جملة دعائه : " اللهم إني أعوذ بك من القتل عند الفرار من الزحف " وقال النبي r : " وأعوذ بك أن أموت في سبيلك مدبراً " وهو معنى قول اله تعالى
يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفاً فلا تولوهم الأدبار) الآية . فالقتل عند الفرار من الزحف تعوذ منه رسول الله r وفيه هذا الوعيد في القرآن ، وكذلك الموت على غير توبة نسأل الله العافية فإنه أكبر من الفرار من الزحف ، لأن مجاهدة النفس والشيطان هو الجهاد الأكبر كما في الحديث . فالقتل عند الفرار منه أكبر ، لأنك إذا فررت من مجاهدة النفس والشيطان ، فقد فررت من الزحف . والفرار منه : هو هتك ما حرم الله سبحانه ، أو ترك ما أمر به ، فتعوذ بالله أن نموت ونحن مصرون على شئ منه . اللهم أمتنا ونحن تائبون ، مجاهدون في سبيلك ، والجهاد في سبيل الله : هو القيام في نحر العدو ، وأي عدو أعظم من الشيطان والنفس ، وسبيل الله : هو الطريق الموصلة إلى الله (فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلاً)
وقال رضي الله عنه : قال الله سبحانه وتعالى : (لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة) إلى قوله : (إنه بهم رؤوف رحيم) فابتدأهم الله سبحانه وتعالى بالتوبة وحباهم بها ، وكل واحد منهم ذنبه على قدره ، وأما رسول الله r فليس له ذنب ، كيف وهو معصوم ؟ ولكن لما عرف قدر الله سبحانه حق قدره ، نزل نفسه منزلة المقصر في حقه ، وكان ذلك ذنباً عنده ، فتاب عليه الحق سبحانه وتعالى ، باعتبار ما عنده من تسمية ذلك ذنباً ، إذ كل واحد له ذنب باعتبار ما عنده ، وإن كان ليس ذنباً حقيقة فتاب عليهم جميعاً ولم يكلهم فيها إلى أنفسهم شيئاً ، بخلاف الثلاثة الذين خلفوا ، فإنه لما ظهر ذنبهم على رؤوس الأشهاد ، قال في حقهم تبارك وتعالى : (وعلى الثلاثة الذين خلفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت) إلى قوله : (إن الله هو التواب الرحيم) فقال : ليتوبوا فوكلهم إلى أنفسهم في التوبة لكن لولا أنها سبقت توبة الله عليهم ما قدروا على التوبة (وما تشاؤن إلى أن يشاء الله) فافهم هذه النكتة .
وقال رضي الله عنه : لما قالت الملائكة – عليهم الصلاة والسلام – حين قال الله تعالى : (إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك) جعل سبحانه مصلحتهم على يده في أول وهلة ، فهم أول من استفاد منه حين علمهم الأسماء ، وهم مع طول مدة أعمارهم في عبادة الله تعالى لم يعرفوا الأسماء ، ومعرفة الأسماء والعلم بها هو أعظم العلوم ، فإن كل اسم من أسماء الله إذا عرف ازدادت معرفة الله تعالى ، ثم ذكروا الفساد بقولهم : من يفسد فيها وجعلوا الفساد بسبب واحد منهم وهو إبليس ، ثم لما قالوا : ويسفك الدماء ولم يعينوا بكونه حلالاً أو حراماً ، أمرهم أن ينزلوا فيسفكوا الدماء في يوم بدر ، وبقولهم هذا ظهرت مزية الإنسان وشرفه ، فجزاهم الله عنا خيراً ؛ لأن الله سبحانه وتعالى خاصمهم عنا قبل وجودنا ، لما نسبوا ذلك غلينا ، وقولهم : (أتجعل فيها) الخ . هو كسكرة أدهشتهم ، لما نزل الحق نفسه منزلة المستشير لهم فسكروا سكرة بسط ، فلا لوم ، وأي سكرة أعظم من سكرة البسط ؟ وأي بسط أعظم من أن يستشير الملك الذي يعلم ما في السماوات وما في الأرض ، ويعلم ما تخفي الصدور من عبيده ؟