شباب الختمية

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
شباب الختمية

منتدى شباب الختم يتناول قضايا الشباب وفعالياتهم


    روائع الإمام الشافعى

    Admin
    Admin
    Admin


    المساهمات : 1949
    تاريخ التسجيل : 10/01/2008

    روائع الإمام الشافعى Empty روائع الإمام الشافعى

    مُساهمة  Admin الثلاثاء نوفمبر 01, 2011 8:39 pm

    شـعــر الـشـافـعــي
    الإمام محمد بن إدريس الشافعي هو الوحيد من الأئمة الأربعة الذي جمع إلى غزارة العلم واتساعه نبوغًا في الشعر والقصيد، ولكنه لم يكن يهتم بهذا الجانب بصورة كافية؛ لانشغاله بعلم الدين وفقهه وفهم السنة ونقلها. نظم الشافعي الشعر في موضوعات وأغراض شتى، من الزهد والعلم والحكمة والفخر والشكوى وغيرها، وجمع ذلك في ديوان مشهور في أيدي الناس.
    كان الشافعي قوامًا صوامًا، متعبدًا ناسكًا، يعيش في محراب الحق مسبحًا مناجيًا، يعبد الله بلسانه وقلبه، ويعظ ويبشر وينصح ولا ينفِّر، وقد عبَّر عن الكثير من دعائه وابتهالاته شعرًا رقيقًا ناصعًا. وصاغ ضراعته واستغفاره نظمًا نورانيًّا لامعًا.
    يروي عبد الله بن مردان أنه سمع الشافعي يدعو الله قائلاً: "اللهم امنن علينا بصفاء المعرفة، وهب لنا تصحيح المعاملة فيما بيننا وبينك على السُّنة، وارزقنا صدق التوكل عليك وحسن الظن بك، وامنن علينا بكل ما يُقرِّبنا إليك مقرونًا بعوافي الدارين، برحمتك يا أرحم الراحمين"
    فلما فرغ من دعائه خرج من المسجد فوقف ينظر إلى السماء ثم أنشد:
    بموقـف ذلٍّ دون عزتـك العظمـى بمخفيِّ سرٍّ لا أحيـط بـه علمـا
    بإطراق رأسي، باعترافـي بذلتـي بمدِّ يدِي أستمطر الجود والرُّحمَى
    بأسمائك الحسنى التي بعض وصفها لعزتها يستغرق النثـر والنظمـا
    بعهد قديـم مـن "ألـسـت بربكـم" بمن كان مجهولاً فعلمته الأسمـا
    أذقنا شراب الأنس يا من إذا سقـى محبًّا شرابًا لا يُضـام ولا يظمـا
    وكان الشافعي جالسًا في مدينة الرسول بعد صلاة الصبح فدخل عليه رجل فقال له: إني خائف من ذنوبي أن أقدم على ربي، وليس لي عمل غير التوحيد، فطيَّب الشافعي خاطره، وأذهب خوفه مستشهدًا بقول الله جل وعز. (وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ) (سورة آل عمران: الآية 135). وقال له: لو أراد الله عقوبتك في جهنم وتخليدك لما ألهمك معرفتك به وتوحيدك له. ثم أنشد:
    إن كنت تغدو في الذنـوب جليـدًا وتخـاف في يوم المعاد وعيدا
    فلقد أتـاك من المهيمـن عفـوه وأتاح من نِعَمٍ عليـك مزيـدا
    لا تيأسنْ من لطف ربك في الحشا في بطـن أمك مضغة ووليدا
    لو شاء أن تصلـى جهنـم خالدًا ما كان ألهم قلبـك التوحيـدا
    ويبلغ الشافعي قمة الشفافية وهو يستغفر الله تعالى ويناجيه، ويضرع إليه وكان مريضًا مرضه الأخير، دخل عليه تلميذه المزني فوجده ينظر إلى السماء باكيًا مستعبرًا مناجيًا:
    تعاظمنـي ذنبـي فلمـا قرنتُـه بعفوك ربي كان عفوك أعظما
    ولما قسا قلبي وضاقـت مذاهبـي جعلت رجائي نحو عفوك سلَّما
    وما زلتَ ذا عفو عن الذنب لم تزَلْ تجود وتغفـر مِنَّـة وتكرمـا
    فلولاك لم يقـدِرْ بإبليـس عابـد فكيف وقد أغوى صفيَّك آدمـا
    فيـا ليـت شعري هل أصير لجنة أُهَـنَّا وإمـا للسعيـر فأندمـا
    فللـه در العـارف النَّـدْب إنـه تَسِحُّ لفـرط الوجد أجفانه دمـا
    يقيـم إذا ما الليـل جَـنَّ ظلامـه على نفسه من شدة الخوف مأتما
    وينهي الشافعي ضراعته الطويلة بتوقع الإحسان من صاحب الإحسان وطلب الغفران من صاحب الغفران سبحانه فيقول:
    عسى من له الإحسان يغفر زَلَّتـي ويستـر أوزاري وما قد تقدمـا
    إن الشافعي في ضراعته تلك كان يفرش لنفسه طريق الآخرة بالاستعبار والاستغفار، وهو على يقين من أن الله سبحانه هو غافر الذنوب جميعًا، ولقد كان من عميق ثقته بالله عز وجل يردد هذين البيتين:
    صبـرًا جميلاً ما أقـرب الفرجـا مـن راقـب الله في الأمور نجا
    مـن صـدَّق الله لـم ينلـه أذى ومن رجاه يكون حيـث رجـا
    لقد كان الشافعي رحمه مصدقًا بالله راجيًا لله مراقبًا لله، ولو كان تفرغ للشعر، فإن الأمر الذي لا شك فيه أن موهبته كانت من السخاء بحيث تؤهله لاحتلال مكانة سامية بين صفوة شعراء العربية المرموقين.
    والواقع أن الفكرة في شعر الشافعي أكبر من ثوب الشعر نفسه أو بعبارة أخرى: إن شعر الشافعي لا يسع أفكاره العميقة المتزاحمة. ويمتلئ شعره بالحكم المختلفة التي تتناول أمورا شتى من حياة الناس كالصحبة والصداقة وأخلاق الناس وتغيرات الزمان وغيرها، والمثال على ذلك تلك الأبيات التي يصب فيها بعض أفكاره الحكيمة:
    إن الذي رُزق اليسـار ولم يصب حمدًا ولا أجـرًا لَغير موفَّـقِ
    الجـد يدنـي كل أمـر شاسـع والجد يفـتح كـل باب مغلـق
    وإذا سمعت بأن مجدودًا حـوى عودًا فأثمر في يديـه فصـدِّقِ
    وإذا سمعت بأن محـرومًا أتـى مـاء ليشربه فغـاض فحقِّـقِ
    لو كان بالحيل الغنى لوجدتنـي بنجوم أقطـار السمـاء تعلقـي
    لكنَّ من رُزِق الحِجَى حرم الغِنَى ضـدان مفتـرقـان أي تفـرق
    ومن الدليل على القضاء وكونـه بؤس اللبيب وطيب عيش الأحمق
    ويوغل الشافعي في لب القول الحكيم حين يرى الناس غافلين متكاسلين متواكلين مستعبدين مغلوبين على أمرهم فإذا ما خوطبوا ردوا مآسيهم إلى حكم الزمان، إن الشافعي يرفض دعواهم تلك، وتبريراتهم لهذه الدعوى المتهافتة المريضة ويقول موبخًا معنفًا:
    نعيـب زماننـا والعيـب فينـا وما لزماننـا عيـب سوانـا
    ونهجـو ذا الزمانَ بغير جُـرْمٍ ولو نطق الزمان إذًا هجانـا
    وهما بيتان نفيسان محمَّلان بمعان نفيسة من القيم، استفاد منهما كثير من الشعراء.
    وللشافعي أبيات في الفخر لعل النسيج والمعنى فيها قد سارا جنبًا إلى جنب في تساوق ومساواة غير أننا لا ننتظر من العالم الجليل والإمام المقدم فخرًا جاهلي المعنى صاخب المذهب، وإنما هو فخر في نطاق العلم والبيان والأخلاق، مع مسار واضح تتغلغل الحكمة فيه:
    إذا المشـكـلات تصديـن لـي كشفـت حقائقـهـا بالنظـرْ
    لـسـان كشقشـقـة الأرحبــ ـيِّ أو كالحسام اليماني الذكرْ
    ولسـت بإمعـة فـي الرجـال أسائل هـذا وذا مـا الخبـرْ
    ولكننـي مِـدْرة الأصغـريــ ــن جلابُ خير وفرَّاج شـرْ
    ومن لطائف شعر الشافعي في الفخر إثر محنة تعرض لها حين قطع عليه الطريق، فدخل مسجدًا وقد ارتدى ثوبًا باليًا، والناس يدخلون ويخرجون دون أن يلتفتوا إليه:
    علـيَّ ثيـاب لـو يُبـاع جميعهـا بفلـس لكان الفلس منهن أكثـرا
    وفيهـن نفـس لو يُقاس ببعضهـا نفـوس الورى كانت أجلَّ وأكبرا
    وما ضر نصل السيف إخلاق غِمده إذا كان عضبًا أين وجَّهته فـرى
    وإذا كانت النفس تفخر حينًا فإنها تشكو أحيانًا، ولا يضر النفس الكريمة أن تشكو ما دامت شكواها مما لا ينال من قدرها، بل إن الشكوى خليقة بأن تصدر عن النفس الكريمة إذا ما أحست بشيء من الهوان، والشكوى ما لم تكن متشحة بالحكمة موسومة بالعاطفة لا تستطيع أن تصل إلى مشارف الحس فضلاً عن اقتحام سويداء القلوب، فمن شعر الشافعي الذي يخاطب القلب خطابًا مباشرًا قوله:
    أصبحت مطَّرَحًا في معشر جهلـوا حـق الأديب فباعوا الـرأس بالذنَبِ
    والنـاس يجمعهـم شمل وبينهـمُ في العقل فرق وفي الآداب والحسَبِ
    كمثـل ما الذهـب الإبريز يَشْرَكُه في لونه الصُّفـْر والتفضيل للذهـبِ
    والعود لو لم تَطِبْ منـه روائحه لم يفرق الناس بين العـود والحطبِ
    وتستبد بالشافعي شكواه من مصاحبة مَن هو غير جدير بصحبته في غربته فيعبر عن ذلك في بيتين من الشعر الإنساني الرفيع قائلاً:
    وأنزلني طول النـوى دار غربـةٍ إذا شئـتُ لاقيت امرءًا لا أشاكلهْ
    أُحامِقُـه حتـى تقـال سجـيـة ولو كان ذا عقـل لكنتُ أعاقلـهْ
    وإذا كان الشافعي قد تناول جمهرة الناس من عامة وخاصة في شعره ومقطوعاته الحكمية، فإنه مارس مسئولية الكلمة الصادقة والرأي الحر ولم يتبع سبيل الخائفين الذين يحبون الحياة الدنيا ويذرون الآخرة فلم يغفل عن الحكام الذين يظلمون الناس فيبين أن عاقبة هذا الظلم وخيمة وأن هناك سنة كونية لابد من تحققها وهي: "كما تدين تدان" أو حسب قول الشافعي "هذا بذاك":
    تحكمـوا فاستطالـوا في تحكمهم عما قليلٍ كأن الحكـم لم يكـنِ
    لو أنصفوا أُنصِفُوا لكن بغوا فبغى عليهم الدهر بالأحزان والمحَنِ
    فأصبحوا ولسان الحال ينشدهـم هذا بذاك ولا عَتْبٌ على الزمنِ
    كما أن الشافعي عالم فقيه إمام، آمن بالعلم وسيلة وغاية، ورأى فيه السيادة والمروءة. فعلم وتعلم، وسافر وارتحل في سبيل اقتناص المعرفة، وعاش رضي الله عنه يحمل على عاتقه رسالة العلم وأمانة الكلمة، فكان من الطبيعي أن يتوقف في شعره غير قليل عند العلم والعلماء، وأن يقدم ذلك كله في نطاق من المعاني والمثل والقيم العليا. يعرض الشافعي للعلم وما يخلعه على صاحبه من فضل، يرفع قدره وإن كان وضيعًا، ويعظم شأنه ولو كان حقير المنشأ رقيق الحال:
    رأيـت العلم صاحبـه كريمٌ ولـو ولدتــه آبـاء لئـامُ
    وليس يزال يرفعـه إلى أن يُعَظِّم أمره الـقـوم الكِـرام
    ويتَّبِعونـه في كـل حـالٍ كراعي الضأن تتبعـه السَّوام
    فلولا العلم ما سَعِدتْ رجال ولا عُرِف الحلال ولا الحرامُ
    أما وإن هذا هو قدر العلم وموقع العالم من الناس، فليقدم المرء على اقتناصه في صبر وأناة، فمن لا يزينه علم لا يوقره جمع، ومن لا يجمل نفسه بالمعرفة فهو والموتى سواء، ولابد في طلب العلم من مصاعب تواجه المرء، لكن هذه المصاعب أهون من ذل الجهل:
    تصبر على مُـرِّ الجفا من معلـم فإن رسـوبَ العلم في نفَراتِهِ
    ومن لم يـذُقْ ذل التعلـم ساعـةً تجرع ذل الجهل طول حياته
    ومن فاته التعليـم وقـت شبابـه فكَـبِّر عليـه أربعًا لوفاتـه
    حياة الفتى ـ والله ـ بالعلم والتقى إذا لم يكونـا لا اعتبار لذاته
    والشافعي فقيه أجرى حياته على سنَن، وأقامها على شروط، واستوى بها على أحكام، ومن ثم فهو يطبق ذلك على طالب العلم وينبهه ويأخذ بيده إلى الوسائل الكفيلة بأن تصل به إلى شاطئه فينهل ويرتوي، إن هذه الوسائل وتلك الشرائط لخصها الشافعي في هذين البيتين:
    أخي لن تنال العلـم إلا بستـة سآتيـك عنها مخبـرًا ببيانِ
    ذكاء وحرص واصطبار وبُلْغة وصحبة أستاذ وطول زمانِ
    على أن العلم وحده لا يجدي فتيلاً ما لم يكن مصحوبًا بتقوى الله والخلق السوي والسيرة الطيبة والمسلك الحسن. إن الشافعي ينبه إلى ذلك فيما ينبه وهو يتناول قضية العلم في شعره فيقول:
    إذا لم يزد علم الفتى قلبَه هدى وسيرته عدلاً وأخلاقه حُسْنا
    فبشِّـرْه أن الله أولاه نقمــة يُساء بها مثل الذي عبد الوَثْنا
    هكذا يكون العلم المقرون بالخلق الحسن فضلاً ونعمة، ويكون العلم المقرون بسوء السيرة شرًّا ونقمة، ولا توسط بين الأمرين.
    ومن أصاب علمًا كان عرضة لأن يَسأل ويسأل، ويُحاوِر ويُحاوَر، ويناظر ويناظر، وللحوار آداب، وللمناظرات تقاليد، أهمها الهدوء والتسامح والتواضع، والبعد عن اللجاج واجتناب المكابرة، ولقد عرف الشافعي بهدوئه في مناظراته، وأدبه في محاوراته، وسعة صدره في مجادلاته، فكسب بذلك قلوبًا وراض نفوسًا وربح أتباعًا وألف أحبابًا واستصلح خصومًا.
    إنه يترجم عن آداب المناظرة في هذه الأبيات السلسة العذبة قائلاً:
    إذا ما كنت ذا علـم وفضلٍ بما اختلف الأوائل والأواخِرْ
    فناظِرْ من تناظر في سكونٍ حليـمًا لا تلـجُّ ولا تكابـرْ
    يفيدك ما استفاد بلا امتنـانٍ من النكـت اللطيفة والنوادرْ
    وإياك اللجوجَ ومن يرانـي بأنـي قد غلبتُ ومن يفاخرْ
    فإن السر في جنبـات هـذا قميـن بالتقاطـع والتدابـرْ
    وأهم ما يؤصل مبادئ الحب والألفة في نفوس الناس صفاء الود، وحسن المصاحبة، وشيوع الصداقة وانتشار المودة. فمن خلال هذه القيم يتكون المجتمع الصالح المترع بالحب النقي من العداوات. ومن ثم فقد عني الشافعي فيما كتب من شعر بهذه القيم، يظهرها ويركز عليها، ويهتم بها ويشير إليها وقد جعل من الصداقة والصديق مرتكزًا ومنطلقًا، ومن ثم فإنه يوضح من هو الصديق، وما هي صفاته في هذه الأبيات:
    صديق ليس ينفـع يوم بـاسِ قريب من عدوٍّ في القياسِ
    ولا يُرجَى الصديق بكل عصرٍ ولا الإخـوان إلا للتآسـي
    خبرت النـاس ملتمسًا بجهدي أخا ثقة فأكْـدَاه التماسـي
    تنكـرت البـلاد عليَّ حتـى كأن أناسَها ليسـوا بنـاسِ
    ولكي يعيش المرء سعيدًا في مجتمع نقي عليه أن يستمسك بصفات تقربه إلى الناس وتقرب الناس إليه في نطاق التزين بالخلق والصيانة والصبر.
    وهو ما يعبر الشافعي عنه بقوله:
    صن النفس واحملهـا على ما يَزِينها تعش سالمًا والقول فيك جميلُ
    ولا تُرِيَـنَّ النـاس إلا تجـمــلاً نبا بك دهـر أو جفـاك خليلُ
    وإن ضاق رزق اليوم فاصبر إلى غدٍ عسى نكبات الدهر عنك تزول
    ثم يدلف الشافعي في رشاقة ويسر إلى حديث الصداقة والصديق، أو بالأحرى حديث الإخوان من جانبي الخير والشر فيقول:
    ولا خير في ود امرئ متلَوِّنٍ إذا الريح مالت مال حيث تميل
    وما أكثر الإخوان حين تعدُّهم ولكنهم فـي النائبات قلـيـل
    ويسجل الشافعي في أبيات قليلة صفة الإخوان الجديرين بحبه الخليقين بصداقته على هذا النحو:
    أحب من الإخوان كل مواتي وكل غضيض الطرف عن عثراتي
    يوافقني في كل أمر أريـدُه ويحفظنـي حيًّا وبـعـد وفاتـي
    ثم يبحث الشافعي عن هذا الصديق لعله يجده، ويعبر عن ذلك قائلاً:
    فمن لي بهذا؟ ليت أني أصبتُه فقاسمْتـه ما لـي مـن الحسنـاتِ
    تصفحت إخواني وكان أقلُّهمْ ـ على كثرة الإخوان ـ أهل ثقاتي
    لقد طرق الشافعي معنى جليلاً ألح عليه إلحاحًا شديدًا في الإشادة بقيمة الصداقة وقدر الصديق، الصديق الذي تخيل الشافعي ندرة وجوده، ولو قد وجده فإنه يستحق منه أغلى ما يملك الإنسان في دنياه وآخرته وهو حسناته، إذن لقاسمه إياها في رضى وارتياح.
    أما وإن هذا الصديق قد ندر وجوده. وذاك الخِلُّ قد أصبح حلمًا لا يُنال. فإن الوحدة والابتعاد عن الناس هي أفضل الأمور وأخفها ضررًا:
    إذا لم أجد خِـلاَّ تقيًّا فوحدتـي ألذ وأشهـى من غويٍّ أعاشرهْ
    وأجلس وحدي للسفاهـة آمنًا أقَرُّ لعيني من جليـس أحاذرهْ
    تلك فلسفة الصداقة والصديق عند الشافعي وهي معانٍ جليلة جاءته نتيجة تجارب في الحياة مريرة عديدة ضمنها في بلاغة وعمق هذه الأبيات النفيسة على قلة عددها.
    وقد مرض محمد بن عبد الحكم بن أعين القرشي المصري تلميذ الشافعي وصاحبه، وكان قريبًا إلى قلب الشافعي كل القرب، بل كان أبوه وإخوته الثلاثة الحكم وعبد الرحمن وسعد من الملازمين للإمام، وذهب الشافعي ليعود محمدًا وعاد من زيارته وقد تألَّم لصديقه وتلميذه فقال هذين البيتين الطريفين:
    مرض الحبيـب فعدتُـه فمرضتُ من حذري عليه
    وأتى الحبيـب يعودُنـي فبـرئتُ من نظري إليـه
    على أن الشافعي لم يعدم الصديق الناصح والجليس الصالح، إن الصديق الناصح يصدق المرء إذا استنصحه، ويعظه إذا شاوره، ولقد وجد الشافعي هذا الصديق في وكيع بن الجراح، وفي ذلك يقول الشافعي هذين البيتين الجميلين النفيسين:
    شكوتُ إلى وكيع سوء حفظي فأرشدني إلى ترك المعاصي
    وأخبرنـي بأن العلـم نـور ونور الله لا يؤتـاه عاصي
    وكان الشافعي كثير الترحل محبًّا للأسفار، لقد حمل صغيرًا من غزة إلى الحجاز. وفي الحجاز تنقل بين مكة والمدينة والبادية حيث تلقى الفصاحة والشعر في هذيل. وحينما اشتد عوده سافر ليتقلد بعض الأعمال في اليمن ويزور العراق غير مرة ويقيم فيها مرة ثلاث سنين ومرة أشهرًا، ويختم حياته بزيارة مصر، ومن ألف السفر ذاق لذته وأحس بقيمة ما يكتسبه منه من فوائد في العقل والنفس والبدن لا تقدَّر إلا بالثمن الربيح، ولذلك فإن الشافعي يدفع نفسه إلى السفر دفعًا برغم ما فيه من مخاطر وفجاءات فيقول:
    سأضرب في طول البلاد وعَرْضِها أنال مرادي أو أمـوت غريبًا
    فـإن تَلِفَـت نفسـي فلله درُّهـا وإن سلمت كان الرجوع قريبًا
    ولا تتلف نفس الشافعي من سفر، بل تُراض على الخبرة بالحياة، والانتفاع بكل خطوة تخطوها في رحابها، فيجعل من نفسه داعية للارتحال، ويدعو الناس إلى مشاركته حب السفر، ويقول أبياته النفيسة المشهورة المحفوظة:
    سافـر تجـد عوضًا عمن تفارقـه وانصَب فإن لذيذ العيش في النصَبِ
    إني رأيـت وقوف المـاء يفسـده إن سال طاب وإن لم يجر لم يطبِ
    والأسْد لولا فراق الغاب ما افترست والسهم لولا فراق القوس لم تُصِبِ
    والتبر كالتـرب ملقًى في أماكنـه والعود في أرضه نوع من الحطبِ
    وكان الإمام الشافعي على علمه وفضله وورعه متصفًا بالزهد معروفًا بالقناعة. أما من ناحية كرمه فكان مثل الريح عطاءً وكالبحر جودًا، ومن ثم فإننا لا نكون غالين أو مبالغين إذا ما قررنا أن شعر الزهد عند الشافعي ربما كان خير شعره، وله تميزه بين شعر الزهد في الأدب العربي، إنه يبدأ حياة الزهد معبرًا عنها بهذه الأبيات:
    أمَتُّ مطامعي فأرحتُ نفسي فإن النفس ما طمِعَتْ تهونُ
    وأحييتُ القُنوع وكـان ميتًا ففي إحيائه عرضي مصونُ
    إذا طمَعٌ يَحِلُّ بقلـب عبـدٍ علتْـه مهانـة وعلاه هُونُ
    إن صورة الزهد هنا تبرز أيضًا جانبًا أخلاقيًّا. فإن النفس الطماعة تهون على الناس. وليس كذلك النفس القانعة، والطمع مذلة ومهانة ومن هنا كان الركون إلى القناعة هو بداية الزهد وجوهر الصون.
    ثم يطرق الشافعي الباب الأصيل للزهد في قوة وعزم وثبات، ويجعل هذه الأبيات له مدخلاً يترجم من خلالها عن خوضه في بحره قائلاً:
    ومتعب العيـش مرتاحًا إلى بلـدٍ والموت يطلبه من ذلك البلـدِ
    وضاحك والمنايـا فـوق مَفرِقـه لو كان يعلم غيبًا مات من كمدِ
    من كان لم يؤت علمًا في بقاء غد ماذا تَفَكُّرُهُ في رزق بعد غـدِ
    ويخاصم الشافعي الدنيا وينصرف عنها، ويسخر في رفق من أولئك الطامعين فيها، المستمسكين بأذيالها وهم يعلمون أنهم فيها مسافرون، وأنهم لا بد عنها راحلون فيقول:
    يا من يعانق دنيـا لا بقاء لهـا يمسي ويصبح في دنياه سفَّارا
    هلاَّ تركتَ لِـذِي الدنيا مُعانقـةً حتى تعانق في الفردوس أبكارا
    إن كنتَ تبغي جِنان الخلد تسكنها فينبغـي لك ألا تأمن النـارا
    وعلى نفس الدرب يمضي الشافعي في زهده مستصغرًا الدنيا محقرًا لشأنها وإن كان ثمة ما يؤدَّى فيها فهي الأعمال الصالحة التي تكون خير زاد لأطول رحلة وأقصى سفرة، ومن ثم يقول:
    إن لله عـبـادًا فُطُنـا طلقـوا الدنيا وخافـوا الفِتَنا
    نظروا فيها فلما علموا أنهـا ليسـت لحـيٍّ وطنـا
    جعلوها لُجَّة واتخـذوا صالح الأعمـال فيها سفُنـا

      الوقت/التاريخ الآن هو الجمعة مارس 29, 2024 12:35 am